[ ص: 181 ] (
ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب )
قوله تعالى : (
ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب )
اعلم أن هذه الآية شرح واقعة ثانية
لسليمان عليه السلام ، واختلفوا في المراد من قوله : (
ولقد فتنا سليمان ) ولأهل الحشو والرواية فيه قول ، ولأهل العلم والتحقيق قول آخر ، أما
قول أهل الحشو فذكروا فيه حكايات :
الرواية الأولى : قالوا إن
سليمان بلغه خبر مدينة في البحر فخرج إليها بجنوده تحمله الريح فأخذها وقتل ملكها ، وأخذ بنتا له اسمها
جرادة من أحسن الناس وجها ، فاصطفاها لنفسه ، وأسلمت فأحبها ، وكانت تبكي أبدا على أبيها ، فأمر
سليمان الشيطان فمثل لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته ، وكانت تذهب إلى تلك الصورة بكرة وعشيا مع جواريها يسجدن لها ، فأخبر آصف
سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ، ثم خرج وحده إلى فلاة ، وفرش الرماد فجلس عليه تائبا إلى الله تعالى ، وكانت له أم ولد يقال لها
أمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها ، وكان ملكه في خاتمه فوضعه عندها يوما ، فأتاها الشيطان صاحب البحر على صورة
سليمان . وقال : يا
أمينة خاتمي فتختم به وجلس على كرسي
سليمان فأتى عليه الطير والجن والإنس ، وتغيرت هيئة
سليمان فأتى
أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته . فعرف أن الخطيئة قد أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف ، وإذا قال : أنا
سليمان حثوا عليه التراب وسبوه ، ثم أخذ يخدم السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على هذه الحالة أربعين يوما عدد ما عبد الوثن في بيته ، فأنكر آصف وعظماء
بني إسرائيل حكم الشيطان وسأل آصف نساء
سليمان ، فقلن ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من جنابة ، وقيل بل نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهن ، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد
سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به ووقع ساجدا لله ، ورجع إليه ملكه وأخذ ذلك الشيطان وأدخله في صخرة وألقاها في البحر .
والرواية الثانية للحشوية : أن تلك المرأة لما أقدمت على عبادة تلك الصورة افتتن
سليمان وكان يسقط الخاتم من يده ولا يتماسك فيها ، فقال له آصف إنك لمفتون بذنبك فتب إلى الله .
والرواية الثالثة لهم : قالوا إن
سليمان قال لبعض الشياطين كيف تفتنون الناس ؟ فقال أرني خاتمك أخبرك فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فذهب ملكه وقعد هذا الشيطان على كرسيه ، ثم ذكر الحكاية إلى آخرها .
[ ص: 182 ] إذا عرفت هذه الروايات فهؤلاء قالوا : المراد من قوله : (
ولقد فتنا سليمان ) أن الله تعالى ابتلاه وقوله : (
وألقينا على كرسيه جسدا ) هو جلوس ذلك الشيطان على كرسيه .
والرواية الرابعة : أنه كان سبب فتنته احتجابه عن الناس ثلاثة أيام فسلب ملكه وألقي على سريره شيطان عقوبة له .
واعلم أن أهل التحقيق استبعدوا هذا الكلام من وجوه :
الأول : أن
الشيطان لو قدر على أن يتشبه بالصورة والخلقة بالأنبياء ، فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من الشرائع ، فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس في صورة
محمد وعيسى وموسى عليهم السلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال ، ومعلوم أن ذلك يبطل الدين بالكلية .
الثاني : أن الشيطان لو قدر على أن يعامل نبي الله
سليمان بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد ، وحينئذ وجب أن يقتلهم وأن يمزق تصانيفهم وأن يخرب ديارهم ، ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل مثله في حق أكابر الأنبياء أولى .
والثالث : كيف يليق بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج
سليمان ؟ ولا شك أنه قبيح .
الرابع : لو قلنا : إن
سليمان أذن لتلك المرأة في عبادة تلك الصورة فهذا كفر منه ، وإن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة ، فكيف يؤاخذ الله
سليمان بفعل لم يصدر عنه ؟
فأما الوجوه التي ذكرها أهل التحقيق في هذا الباب فأشياء :
الأول : أن
فتنة سليمان أنه ولد له ابن فقالت الشياطين إن عاش صار مسلطا علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم
سليمان ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو مشتغل بمهماته إذ ألقي ذلك الولد ميتا على كرسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يتوكل فيه على الله فاستغفر ربه وأناب .
الثاني : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013625قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجيء به على كرسيه فوضع في حجره ، فوالذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا كلهم في سبيل الله فرسانا أجمعون فذلك قوله : (
ولقد فتنا سليمان ) .
الثالث : قوله : (
ولقد فتنا سليمان ) بسبب مرض شديد ألقاه الله عليه ، (
وألقينا على كرسيه ) منه (
جسدا ) وذلك لشدة المرض . والعرب تقول في الضعيف إنه لحم على وضم وجسم بلا روح (
ثم أناب ) أي رجع إلى حال الصحة ، فاللفظ محتمل لهذه الوجوه ولا حاجة البتة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة .
الرابع : أقول لا يبعد أيضا أن يقال إنه ابتلاه الله تعالى بتسليط خوف أو توقع بلاء من بعض الجهات عليه ، وصار بسبب قوة ذلك الخوف كالجسد الضعيف الملقى على ذلك الكرسي ، ثم إنه أزال الله عنه ذلك الخوف ، وأعاد إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب .
أما قوله تعالى : (
قال رب اغفر لي ) فاعلم أن الذين حملوا الكلام المتقدم على صدور الزلة منه تمسكوا بهذه الآية ، فإنه لولا تقدم الذنب لما طلب المغفرة ، ويمكن أن يجاب عنه بأن الإنسان لا ينفك البتة عن ترك الأفضل والأولى ، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن
حسنات الأبرار سيئات المقربين ، ولأنهم أبدا في مقام هضم النفس ، وإظهار الذلة والخضوع ، كما قال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013626إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ولا يبعد أن يكون المراد من هذه الكلمة هذا المعنى والله أعلم .