المقدمة الأولى : أن
إبليس مخلوق من النار ، يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه : (
خلقتني من نار وخلقته من طين ) وقوله تعالى : (
والجان خلقناه من قبل من نار السموم ) [ الحجر : 27 ] .
المقدمة الثانية : أن
النار أفضل من الطين ، ويدل عليه وجوه :
الأول : أن الأجرام الفلكية أشرف من الأجرام العنصرية ، والنار أقرب العناصر من الفلك ، والأرض أبعدها عنه ، فوجب كون النار أفضل من الأرض .
الثاني : أن النار خليفة الشمس والقمر في إضاءة هذا العالم عند غيبتهما ، والشمس والقمر أشرف من الأرض ، فخليفتهما في الإضاءة أفضل من الأرض .
الثالث : أن الكيفية الفاعلة الأصلية ، إما الحرارة أو البرودة ، والحرارة أفضل من البرودة ؛ لأن الحرارة تناسب الحياة ، والبرودة تناسب الموت .
الرابع : الأرض كثيفة والنار لطيفة ، واللطافة أشرف من الكثافة .
الخامس : النار مشرقة والأرض مظلمة ، والنور خير من الظلمة .
السادس : النار خفيفة تشبه الروح ، والأرض ثقيلة تشبه الجسد ، والروح أفضل من الجسد ، فالنار أفضل من الأرض ، ولذلك فإن الأطباء أطبقوا على أن العنصرين الثقيلين أعون على تركيب الأجساد ، وأن العنصرين الخفيفين أعون على تولد الأرواح .
السابع : النار صاعدة والأرض هابطة ، والصاعد أفضل من الهابط .
الثامن : أن أول بروج الفلك هو الحمل ، لأنه هو الذي يبدأ من نقطة الاستواء الشمالي ، ثم إن الحمل على طبيعة النار ، وأشرف أعضاء الحيوان القلب والروح ، وهما على طبيعة النار ، وأخس أعضاء الحيوان هو العظم ، وهو بارد يابس أرضي .
التاسع : أن الأجسام الأرضية كلما كانت أشد نورانية ومشابهة بالنار كانت أشرف ، وكلما كانت أكثر غبرة وكثافة وكدورة ومشابهة بالأرض كانت أخس ، مثاله : الأجسام الشبيهة بالنار الذهب والياقوت
[ ص: 203 ] والأحجار الصافية النورانية ، ومثاله أيضا من الثياب الإبريسم وما يتخذ منه ، وأما أن كل ما كان أكثر أرضية وغبرة فهو أخس ، فالأمر ظاهر .
العاشر : أن القوة الباصرة قوة في غاية الشرف والجلالة ، ولا يتم عملها إلا بالشعاع وهو جسم شبيه بالنار .
الحادي عشر : أن أشرف أجسام العالم الجسماني هو الشمس ، ولا شك أنه شبيه بالنار في صورته وطبيعته وأثره .
الثاني عشر : أن النضج والهضم والحياة لا تتم إلا بالحرارة ، ولولا قوة الحرارة لما تم المزاج وتولدت المركبات .
الثالث عشر : أن أقوى العناصر الأربعة في قوة الفعل هو النار ، وأكملها في قوة الانفعال هو الأرض ، والفعل أفضل من الانفعال ، فالنار أفضل من الأرض . أما القائلون بتفضيل الأرض على النار فذكروا أيضا وجوها :
الأول : أن الأرض أمين مصلح ، فإذا أودعتها حبة ردتها إليك شجرة مثمرة ، والنار خائنة تفسد كل ما أسلمته إليها .
الثاني : أن
الحس البصري أثنى على النار ، فليستمع ما يقوله الحس اللمسي .
الثالث : أن الأرض مستولية على النار ، فإنها تطفئ النار ، وأما النار فإنها لا تؤثر في الأرض الخالصة .
وأما المقدمة الثالثة : فهي أن من كان أصله خيرا من أصله فهو خير منه ، فاعلم أن هذه المقدمة كاذبة جدا ، وذلك لأن أصل الرماد النار ، وأصل البساتين النزهة والأشجار المثمرة هو الطين ، ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد ، وأيضا فهب أن اعتبار هذه الجهة يوجب الفضيلة ، إلا أن هذا يمكن أن يصير معارضا بجهة أخرى توجب الرجحان ، مثل إنسان نسيب عار عن كل الفضائل ، فإن نسبه يوجب رجحانه ، إلا أن الذي لا يكون نسيبا قد يكون كثير العلم والزهد ، فيكون هو أفضل من ذلك النسيب بدرجات لا حد لها ، فالمقدمة الكاذبة في القياس الذي ذكره إبليس هو هذه المقدمة ، فإن قال قائل : هب أن إبليس أخطأ في هذا القياس ، لكن كيف لزمه الكفر من تلك المخالفة ؟ وبيان هذا السؤال من وجوه : الأول : أن قوله : ( اسجدوا ) أمر ، والأمر لا يقتضي الوجوب بل الندب ،
ومخالفة الندب لا توجب العصيان فضلا عن الكفر ، وأيضا فالذين يقولون : إن الأمر للوجوب فهم لا ينكرون كونه محتملا للندب احتمالا ظاهرا ، ومع قيام هذا الاحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلا عن الكفر .
الثاني : هب أنه للوجوب ، إلا أن إبليس ما كان من الملائكة ، فأمر الملائكة بالسجود لآدم لا يدخل فيه إبليس .
الثالث : هب أنه يتناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز ، فخصص نفسه عن عموم ذلك الأمر بالقياس .
الرابع : هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأمورا به إلا أن هذا القدر يوجب العصيان ولا يوجب الكفر ، فكيف لزمه الكفر ، الجواب : هب أن صيغة الأمر لا تدل على الوجوب ، ولكن يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل على الوجوب ، وههنا حصلت تلك القرائن ، وهي قوله تعالى : (
أأستكبرت أم كنت من العالين ) فلما أتى إبليس بقياسه الفاسد دل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك القياس ليتوسل به إلى القدح في أمر الله وتكليفه ، وذلك يوجب الكفر . إذا عرفت هذا فنقول : إن إبليس لما ذكر هذا القياس الفاسد ، قال تعالى : (
فاخرج منها فإنك رجيم ) .
واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم
[ ص: 204 ] معللا بذلك الوصف ، وههنا الحكم بكونه رجيما ورد عقيب ما حكي عنه أنه خصص النص بالقياس ، فهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس يوجب هذا الحكم ، وقوله : ( منها ) أي : من الجنة أو من السماوات ، والرجيم المرجوم ، وفيه قولان :
الأول : أنه مجاز عن الطرد ، لأن الظاهر أن من طرد فقد يرمى بالحجارة وهو الرجم ، فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد ، فإن قالوا : الطرد هو اللعن فلو حملنا قوله : ( رجيم ) على الطرد لكان قوله بعد ذلك : (
وإن عليك لعنتي ) تكرارا ، والجواب من وجهين :
الأول : أنا نحمل الرجم على الطرد من الجنة أو من السماوات ، ونحمل اللعن على الطرد من رحمة الله .
والثاني : أنا نحمل الرجم على الطرد ، ونحمل قوله : (
وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ) على أن ذلك الطرد يمتد إلى آخر القيامة فيكون هذا فائدة زائدة ، ولا يكون تكريرا .
والقول الثاني : في تفسير الرجيم أن نحمله على الحقيقة ، وهو كون الشياطين مرجومين بالشهب ، والله أعلم . فإن قيل : كلمة " إلى " لانتهاء الغاية ، فقوله : (
إلى يوم الدين ) يقتضي انقطاع تلك اللعنة عند مجيء يوم الدين ، أجاب صاحب " الكشاف " بأن اللعنة باقية عليه في الدنيا ، فإذا جاء يوم القيامة جعل مع اللعنة أنواع من العذاب تصير اللعنة مع حضورها منسية .
واعلم أن إبليس لما صار ملعونا قال : (
فأنظرني إلى يوم يبعثون ) قيل : إنما طلب الإنظار إلى يوم يبعثون ، لأجل أن يتخلص من الموت ، لأنه إذا نظر إلى يوم البعث لم يمت قبل يوم البعث وعند مجيء يوم البعث لا يموت أيضا ، فحينئذ يتخلص من الموت ، فقال تعالى : (
فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ) ومعناه : إنك من المنظرين إلى يوم يعلمه الله ولا يعلمه أحد سواه ، فقال إبليس : (
فبعزتك ) وهو قسم بعزة الله وسلطانه (
لأغوينهم أجمعين ) فههنا أضاف الإغواء إلى نفسه ، وهو على مذهب القدر ، وقال مرة أخرى : (
رب بما أغويتني ) فأضاف الإغواء إلى الله على ما هو مذهب الجبر ، وهذا يدل على أنه متحير في هذه المسألة .