[ ص: 89 ] وأما قوله تعالى : (
ذلك رب العالمين ) أي
ذلك الموجود الذي علمت من صفته وقدرته أنه خلق الأرض في يومين هو رب العالمين وخالقهم ومبدعهم ، فكيف أثبتم له أندادا من الخشب والحجر ؟ ثم إنه تعالى لما أخبر عن كونه خالقا للأرض في يومين أخبر أنه أتى بثلاثة أنواع من الصنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك ، فالأول : قوله : (
وجعل فيها رواسي من فوقها ) والمراد منها الجبال ، وقد تقدم تفسير كونها (
رواسي ) في سورة النحل ، فإن قيل : ما الفائدة في قوله : (
من فوقها ) ولم لم يقتصر على قوله : (
وجعل فيها رواسي ) كقوله تعالى : (
وجعلنا فيها رواسي شامخات ) [ المرسلات : 27 ] (
وجعلنا في الأرض رواسي ) [ الرعد : 3 ] قلنا : لأنه تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول ، ولكنه تعالى قال خلقت هذه
الجبال الثقال فوق الأرض ، ليرى الإنسان بعينه أن الأرض والجبال أثقال على أثقال ، وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ ، وما ذاك الحافظ المدبر إلا الله سبحانه وتعالى .
والنوع الثاني : مما أخبر الله تعالى في هذه الآية قوله : (
وبارك فيها ) والبركة كثرة الخير ، والخيرات الحاصلة من الأرض أكثر مما يحيط به الشرح والبيان ، وقد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما : يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والثمار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الخيرات .
والنوع الثالث : قوله تعالى : (
وقدر فيها أقواتها ) وفيه أقوال :
الأول : أن المعنى وقدر فيها أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب :
قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان ، والقول الثاني : قال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : وقدر فيها أقواتها من المطر ، وعلى هذا القول فالأقوات للأرض لا للسكان ، والمعنى أن الله تعالى قدر لكل أرض حظها من المطر .
والقول الثالث : أن المراد من إضافة الأقوات إلى الأرض كونها متولدة من تلك الأرض ، وحادثة فيها ؛ لأن النحويين قالوا : يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب ، فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة ، وإلى محله أخرى ، فقوله : (
وقدر فيها أقواتها ) أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها ، وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدنا لنوع آخر من الأشياء المطلوبة ، حتى إن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس ، فصار هذا المعنى سببا لرغبة الناس في التجارات من اكتساب الأموال .
ورأيت من كان يقول صنعة الزراعة والحراثة أكثر الحرف والصنائع بركة ؛ لأن الله تعالى وضع الأرزاق والأقوات في الأرض قال : (
وقدر فيها أقواتها ) وإذا كانت الأقوات موضوعة في الأرض كان طلبها من الأرض متعينا ، ولما ذكر الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التدبير قال بعده : (
في أربعة أيام سواء للسائلين ) وههنا سؤالات :
السؤال الأول : أنه تعالى ذكر أنه خلق الأرض في يومين ، وذكر أنه أصلح هذه الأنواع الثلاثة في أربعة أيام أخر ، وذكر أنه خلق السماوات في يومين ، فيكون المجموع ثمانية أيام ، لكنه ذكر في سائر الآيات أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام فلزم التناقض .
واعلم أن العلماء أجابوا عنه بأن قالوا : المراد من قوله : (
وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ) مع اليومين الأولين ، وهذا كقول القائل : سرت من
البصرة إلى
بغداد في عشرة أيام ، وسرت إلى
الكوفة في خمسة عشر يوما يريد كلا المسافتين ، ويقول الرجل للرجل أعطيتك ألفا في شهر وألوفا في شهرين فيدخل الألف في الألوف والشهر في الشهرين .
السؤال الثاني : أنه لما ذكر أنه خلق الأرض في يومين ، فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعد عن الشبهة وأبعد عن الغلط ، فلم ترك هذا التصريح ، وذكر ذلك الكلام المجمل ؟
[ ص: 90 ]
والجواب : أن قوله : (
في أربعة أيام سواء للسائلين ) فيه فائدة على ما إذا قال : خلقت هذه الثلاثة في يومين ، وذلك لأنه لو قال : خلقت هذه الأشياء في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل ، أما لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء ، ثم قال بعده : (
في أربعة أيام سواء للسائلين ) دل ذلك على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان .
السؤال الثالث : كيف القراءات في قوله ( سواء ) ؟ والجواب : قال صاحب " الكشاف " قرئ ( سواء ) بالحركات الثلاث ، الجر على الوصف ، والنصب على المصدر : استوت سواء ، والرفع على : هي سواء .
السؤال الرابع : ما المراد من كون تلك الأيام الأربعة سواء ؟ فنقول : إن الأيام قد تكون متساوية المقادير كالأيام الموجودة في أماكن خط الاستواء ، وقد تكون مختلفة كالأيام الموجودة في سائر الأماكن ، فبين تعالى أن تلك الأيام الأربعة كانت متساوية غير مختلفة .
السؤال الخامس : بم يتعلق قوله : ( للسائلين ) ؟
الجواب فيه وجهان :
الأول : أن
الزجاج قال : قوله : (
في أربعة أيام ) أي في تتمة أربعة أيام ، إذا عرفت هذا فالتقدير (
وقدر فيها أقواتها ) في تتمة أربعة أيام لأجل السائلين ، أي الطالبين للأقوات المحتاجين إليها .
والثاني : أنه متعلق بمحذوف والتقدير كأنه قيل : هذا الحصر والبيان لأجل من سأل كم خلقت الأرض وما فيها ؟ ولما شرح الله تعالى كيفية تخليق الأرض وما فيها أتبعه بكيفية تخليق السماوات فقال : (
ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) وفيه مباحث :
البحث الأول : قوله تعالى : (
ثم استوى إلى السماء ) من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر ، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج ، ونظيره قولهم استقام إليه وامتد إليه ، ومنه قوله تعالى : (
فاستقيموا إليه ) [ فصلت : 6 ] والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها ، من غير صرف يصرفه ذلك .
البحث الثاني : ذكر صاحب " الأثر " أنه كان عرش الله على الماء قبل خلق السماوات والأرض فأحدث الله في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان ، أما الزبد فيبقى على وجه الماء فخلق الله منه اليبوسة ، وأحدث منه الأرض ، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السماوات .
واعلم أن هذه القصة غير موجودة في القرآن ، فإن دل عليه دليل صحيح قبل وإلا فلا ، وهذه القصة مذكورة في أول الكتاب الذي يزعم
اليهود أنه التوراة ، وفيه أنه تعالى خلق السماء من أجزاء مظلمة ، وهذا هو المعقول ؛ لأنا قد دللنا في المعقولات على أن الظلمة ليست كيفية وجودية ، بدليل أنه لو جلس إنسان في ضوء السراج وإنسان آخر في الظلمة ، فإن الذي جلس في الضوء لا يرى مكان الجالس في الظلمة ، ويرى ذلك الهواء مظلما .
وأما الذي جلس في الظلمة فإنه يرى ذلك الذي كان جالسا في الضوء ، ويرى ذلك الهواء مضيئا ، ولو كانت الظلمة صفة قائمة بالهواء لما اختلفت الأحوال بحسب اختلاف أحوال الناظرين ، فثبت أن الظلمة عبارة عن عدم النور ، ثم لما ركبها وجعلها سماوات وكواكب وشمسا وقمرا ، وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة ، فثبت أن تلك الأجزاء حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السماوات والشمس
[ ص: 91 ] والقمر كانت مظلمة ، فصح تسميتها بالدخان ؛ لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور ، فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان ، والله أعلم بحقيقة الحال .