ثم قال تعالى : (
فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : نصب فضلا لأجل أمور ، إما لكونه مفعولا له ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن العامل فيه هو الفعل في قوله : (
الراشدون ) فإن قيل : كيف يجوز أن يكون فضل الله الذي هو فعل الله مفعولا له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد ؟ نقول : لما كان الرشد توفيقا من الله كان كأنه فعل الله ، فكأنه تعالى أرشدهم فضلا ، أي يكون متفضلا عليهم منعما في حقهم .
والوجه الثاني : هو أن العامل فيه هو قوله : (
حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر ) فضلا ، وقوله : (
أولئك هم الراشدون ) جملة اعترضت بين الكلامين أو يكون العامل فعلا مقدرا ، فكأنه قال تعالى : جرى ذلك فضلا من الله ، وإما لكونه مصدرا ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون مصدرا من غير اللفظ ؛ ولأن الرشد فضل فكأنه قال : أولئك هم الراشدون رشدا .
وثانيهما : هو أن يكون مصدرا لفعل مضمر ، كأنه قال : حبب إليكم الإيمان وكره إليكم الكفر ، فأفضل فضلا وأنعم نعمة ، والقول بكونه منصوبا على أنه مفعول مطلق وهو المصدر ، أو مفعول له قول
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، وإما أن يكون فضلا مفعولا به ، والفعل مضمرا دل عليه قوله تعالى : (
أولئك هم الراشدون ) أي يبتغون فضلا من الله ونعمة .
المسألة الثانية : ما
الفرق بين الفضل والنعمة في الآية ؟ نقول : فضل الله إشارة إلى ما عنده من الخير وهو مستغن عنه ، والنعمة إشارة إلى ما يصل إلى العبد وهو محتاج إليه ؛ لأن الفضل في الأصل ينبئ عن الزيادة ، وعنده خزائن من الرحمة لا لحاجة إليها ، ويرسل منها على عباده ما لا يبقون معه في ورطة الحاجة بوجه من الوجوه ، والنعمة تنبئ عن الرأفة والرحمة ، وهو من جانب العبد ، وفيه معنى لطيف وهو تأكيد الإعطاء ، وذلك لأن المحتاج يقول للغني : أعطني ما فضل عنك وعندك ، وذلك غير ملتفت إليه وأنابه قيامي وبقائي ، فإذن
قوله : ( فضلا من الله ) إشارة إلى ما هو من جانب الله الغني ، والنعمة إشارة إلى ما هو من جانب العبد من اندفاع الحاجة ، وهذا مما يؤكد قولنا : فضلا منصوب بفعل مضمر ، وهو الابتغاء والطلب .
المسألة الثالثة : ختم الآية بقوله : (
والله عليم حكيم ) فيه مناسبات عدة " منها " أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق ، قال : إن يشتبه على المؤمن كذب الفاسق فلا تعتمدوا على ترويجه عليكم الزور ، فإن الله عليم ، ولا تقولوا كما كان عادة المنافق لولا يعذبنا الله بما نقول ، فإن الله حكيم لا يفعل إلا على وفق حكمته .
وثانيها : لما قال الله تعالى : (
واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم ) بمعنى لا يطيعكم ، بل يتبع الوحي ، قال : فإن الله من كونه عليما يعلمه ، ومن كونه حكيما يأمره بما تقتضيه الحكمة فاتبعوه . ثالثها :
المناسبة التي بين قوله تعالى : ( عليم حكيم ) وبين قوله : ( حبب إليكم الإيمان ) أي حبب بعلمه الإيمان لأهل الإيمان ، واختار له من يشاء بحكمته . رابعها : وهو الأقرب ، وهو أنه سبحانه وتعالى قال : (
فضلا من الله ونعمة ) ولما كان الفضل هو ما عند الله من الخير المستغنى عنه ، قال تعالى : هو عليم بما في خزائن رحمته من الخير ، وكانت النعمة
[ ص: 109 ] هو ما يدفع به حاجة العبد ، قال : هو حكيم ينزل الخير بقدر ما يشاء على وفق الحكمة .