(
فاصبر لحكم ربك )
فإما أن يكون المعنى : (
فاصبر لحكم ربك ) في تأخير الإذن في القتال ، ونظيره (
فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ) [ الأعراف : 87 ] أو يكون المعنى عاما في جميع التكاليف ، أي فاصبر في كل ما حكم به ربك ، سواء كان ذلك تكليفا خاصا بك من العبادات والطاعات أو متعلقا بالغير ، وهو التبليغ وأداء الرسالة وتحمل المشاق الناشئة من ذلك . ثم في الآية سؤالات :
السؤال الأول : قوله (
فاصبر لحكم ربك ) دخل فيه أن (
ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) فكان ذكره بعد هذا تكريرا .
( الجواب ) الأول أمر بالمأمورات ، والثاني نهي عن المنهيات ، ودلالة أحدهما على الآخر بالالتزام لا بالتصريح ، فيكون التصريح به مفيدا .
السؤال الثاني : أنه عليه السلام ما كان يطيع أحدا منهم ، فما الفائدة في هذا النهي ؟ ( الجواب ) : المقصود بيان أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد ، لأجل ما تركب فيهم من الشهوات الداعية إلى الفساد ، وأن أحدا لو استغنى عن توفيق الله وإمداده وإرشاده ، لكان أحق الناس به هو الرسول المعصوم ، ومتى ظهر ذلك عرف كل مسلم أنه لا بد له من الرغبة إلى الله والتضرع إليه في أن يصونه عن الشبهات والشهوات .
السؤال الثالث : ما
الفرق بين الآثم والكفور ؟ ( الجواب ) : الآثم هو المقدم على المعاصي ، أي معصية كانت ، والكفور هو الجاحد للنعمة ، فكل كفور آثم ، وليس كل آثم كفورا ، وإنما قلنا : إن الآثم عام في المعاصي كلها ؛ لأنه تعالى قال : (
ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ) [ النساء : 48 ] فسمى الشرك إثما ، وقال : (
ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) [ البقرة : 283 ] ، وقال : (
وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) [ الأنعام : 120 ] ، وقال : (
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ) [ البقرة : 219 ] فدلت هذه الآيات على أن هذا الإثم شامل لكل المعاصي .
واعلم أن كل
من عبد غير الله فقد اجتمع في حقه هذان الوصفان ؛ لأنه لما عبد غيره ، فقد عصاه وجحد إنعامه ، إذا عرفت هذا فنقول : في الآية قولان :
الأول : أن المراد شخص معين ، ثم منهم من قال : الآثم والكفور هو شخص واحد ، وهو
أبو جهل ، ومنهم من قال : الآثم هو
الوليد ، والكفور هو
عتبة ، قال
القفال : ويدل عليه أنه تعالى سمى
الوليد أثيما في قوله : (
ولا تطع كل حلاف مهين ) [ القلم : 10 ] إلى قوله : (
مناع للخير معتد أثيم ) [ القلم : 12 ] وروى صاحب الكشاف أن الآثم هو
عتبة ، والكفور هو
الوليد ؛ لأن
عتبة كان ركابا للمآثم ، متعاطيا لأنواع الفسوق ،
والوليد كان غاليا في الكفر . والقول الأول أولى ؛ لأنه متأيد بالقرآن ، يروى أن
عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ولدي ، فإني من أجمل
قريش ولدا ، وقال
الوليد : أنا أعطيك من المال حتى ترضى ، فإني من أكثرهم مالا . فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات من أول حم السجدة إلى قوله : (
فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) [ فصلت : 13 ] فانصرفا عنه ، وقال أحدهما : ظننت أن
الكعبة ستقع علي .
القول الثاني : أن الآثم
[ ص: 229 ] والكفور مطلقان غير مختصين بشخص معين ، وهذا هو الأقرب إلى الظاهر ، ثم قال
الحسن : الآثم هو المنافق ، والكفور مشركو العرب ، وهذا ضعيف ، بل الحق ما ذكرناه من أن الآثم عام ، والكفور خاص .
السؤال الرابع : كانوا كلهم كفرة ، فما معنى القسمة في قوله : (
آثما أو كفورا ) ؟ ( الجواب : ( الكفور أخبث أنواع الآثم ، فخصه بالذكر تنبيها على غاية خبثه ونهاية بعده عن الله .
السؤال الخامس : كلمة " أو " تقتضي النهي عن طاعة أحدهما فلم لم يذكر الواو حتى يكون نهيا عن طاعتهما جميعا ؟ ( الجواب ) : ذكروا فيه وجهين :
الأول : وهو الذي ذكره
الزجاج واختاره أكثر المحققين أنه لو قيل : ولا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما ؛ لأن النهي عن طاعة مجموع شخصين لا يقتضي النهي عن طاعة كل واحد منهما وحده ، أما النهي عن طاعة أحدهما فيكون نهيا عن طاعة مجموعهما ؛ لأن الواحد داخل في المجموع ، ولقائل أن يقول : هذا ضعيف ؛ لأن قوله : " لا تطع هذا وهذا " معناه : كن مخالفا لأحدهما ، ولا يلزم من إيجاب مخالفة أحدهما إيجاب مخالفتهما معا ، فإنه لا يبعد أن يقول السيد لعبده : إذا أمرك أحد هذين الرجلين فخالفه ، أما إذا توافقا فلا تخالفهما .
والثاني : قال
الفراء : تقدير الآية لا تطع منهم أحدا ، سواء كان آثما أو كفورا ؛ كقول الرجل لمن يسأله شيئا : لا أعطيك ، سواء سألت أو سكت .