أما قوله : (
كما أرسلنا ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا الكاف إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده ، فإن قلنا : إنه متعلق بما قبله ففيه وجوه :
الأول : أنه راجع إلى قوله : (
ولأتم نعمتي عليكم ) أي ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بإرسال الرسول .
الثاني : أن
إبراهيم - عليه السلام - قال : (
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ) [ البقرة : 129 ] ، وقال أيضا : (
ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا ) [ البقرة : 128 ] فكأنه تعالى قال : ولأتم نعمتي عليكم ببيان الشرائع ، وأهديكم إلى الدين إجابة لدعوة
إبراهيم ، كما أرسلنا فيكم رسولا إجابة لدعوته ، عن
ابن جرير .
الثالث : قول
أبي مسلم الأصفهاني ، وهو أن التقدير : وكذلك جعلناكم أمة وسطا كما أرسلنا فيكم رسولا ، أي كما أرسلنا فيكم رسولا من شأنه وصفته كذا وكذا ، فكذلك جعلناكم أمة وسطا ، وأما إن قلنا : إنه متعلق بما بعده ، فالتقدير : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يعلمكم الدين والشرع ، فاذكروني أذكركم وهو اختيار
الأصم ، وتقريره : إنكم كنتم على صورة لا تتلون كتابا ، ولا تعلمون رسولا ،
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - رجل منكم ليس بصاحب كتاب ، ثم أتاكم بأعجب الآيات يتلوه عليكم بلسانكم وفيه ما في كتب الأنبياء ، وفيه الخبر عن أحوالهم ، وفيه التنبيه على دلائل التوحيد والمعاد ، وفيه التنبيه على الأخلاق الشريفة ، والنهي عن أخلاق السفهاء ، وفي ذلك أعظم البرهان على صدقه ، فقال : كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلا ، فاذكروني بالشكر عليها ، أذكركم برحمتي وثوابي ، والذي يؤكده قوله تعالى : (
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) [ آل عمران : 164 ] فلما ذكرهم هذه النعمة والمنة ، أمرهم في مقابلتها بالذكر والشكر ، فإن قيل : ( كما ) هل يجوز أن يكون جوابا ؟ قلنا : جوزه
الفراء وجعل لـ ( اذكروني ) جوابين . أحدهما : ( كما ) .
والثاني : (
أذكركم ) ووجه ذلك لأنه أوجب عليهم الذكر ليذكرهم الله برحمته ، ولما سلف من نعمته ، قال القاضي : والوجه الأول أولى ؛ لأنه قبل الكلام إذا وجد ما يتم به الكلام من غير فصل فتعلقه به أولى .
المسألة الثانية : في وجه التشبيه قولان : إن قلنا : الكاف متعلق بقوله
ولأتم نعمتي كان المعنى أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة ؛ لأنه تعالى يفعل الأصلح ، وإن قلنا : إنه متعلق بقوله تعالى : (
فاذكروني ) دل ذلك على أن النعمة بالذكر جارية مجرى النعمة بالرسالة .
المسألة الثالثة : ( ما ) في قوله : (
كما أرسلنا ) مصدرية كأنه قيل : كإرسالنا فيكم ، ويحتمل أن تكون كافة .
أما قوله تعالى : (
فيكم ) فالمراد به العرب ، وكذلك قوله : (
منكم ) وفي إرساله فيهم ومنهم ، نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف ، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير ، فبعثه الله تعالى من واسطتهم ؛ ليكونوا إلى القبول أقرب .
[ ص: 130 ] أما قوله تعالى : (
يتلو عليكم آياتنا ) فاعلم أنه من
أعظم النعم ؛ لأنه معجزة باقية ، ولأنه يتلى فيتأدى به العبادات ، ولأنه يتلى فيستفاد منه جميع العلوم ، ولأنه يتلى فيستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة ، فكأنه يحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة .