المسألة الثالثة : احتج
الجبائي بقوله تعالى : (
وعلى الذين يطيقونه فدية ) على أن الاستطاعة قبل الفعل ، فقال : الضمير في قوله : (
وعلى الذين يطيقونه ) عائد إلى الصوم فأثبت
القدرة على الصوم حال عدم الصوم ؛ لأنه أوجب عليه الفدية ، وإنما يجب عليه الفدية إذا لم يصم ، فدل هذا على أن القدرة على الصوم حاصلة قبل حصول الصوم .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الفدية ؟
قلنا لوجهين :
أحدهما : أن الفدية غير مذكورة من قبل فكيف يرجع الضمير إليها .
والثاني : أن الضمير مذكر والفدية مؤنثة ، فإن قيل : هذه الآية منسوخة فكيف يجوز الاستدلال بها ؟ قلنا : كانت قبل أن صارت منسوخة دالة على أن القدرة حاصلة قبل الفعل ، والحقائق لا تتغير .
أما قوله تعالى : (
فمن تطوع خيرا فهو خير له ) ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يطعم مسكينا أو أكثر .
والثاني : أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب .
والثالث : قال
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري : من صام مع الفدية فهو خير له .
أما قوله : (
وأن تصوموا خير لكم ) ففيه وجوه :
أحدها : أن يكون هذا خطابا مع الذين يطيقونه فقط ، فيكون التقدير : وأن تصوموا أيها المطيقون أو المطوقون وتحملتم المشقة فهو خير لكم من الفدية .
والثاني : أن هذا خطاب مع كل من تقدم ذكرهم ، أعني المريض والمسافر والذين يطيقونه ، وهذا أولى لأن اللفظ عام ، ولا يلزم من اتصاله بقوله : (
وعلى الذين يطيقونه ) أن يكون حكمه مختصا بهم ؛ لأن اللفظ عام ولا منافاة في رجوعه إلى الكل ، فوجب الحكم بذلك وعند هذا يتبين أنه لا بد من الإضمار في قوله : (
فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) ، وأن التقدير : فأفطر فعدة من أيام أخر .
الثالث : أن يكون قوله : (
وأن تصوموا خير لكم ) عطفا عليه على أول الآية ، فالتقدير : كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم .
أما قوله : (
إن كنتم تعلمون ) أي أن الصوم عليكم فاعلموا صدق قولنا وأن تصوموا خير لكم .
الثاني : أن آخر الآية متعلق بأولها ، والتقدير كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ، أي أنكم إذا تدبرتم علمتم ما في الصوم من المعاني المورثة للتقوى وغيرها مما ذكرناه في صدر هذه الآية .
الثالث : أن العالم بالله لا بد وأن يكون في قلبه خشية الله على ما قال : (
إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ فاطر : 28 ] فذكر العلم والمراد الخشية ، وصاحب الخشية يراعي الاحتياط ، والاحتياط في فعل الصوم ، فكأنه قيل : إن كنتم تعلمون الله حتى تخشونه كان الصوم خيرا لكم .