أما قوله تعالى : (
فاعلموا أن الله عزيز حكيم ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : إن
قوله تعالى : ( فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات ) إشارة إلى ذنبهم وجرمهم ، فكيف يدل قوله : (
أن الله عزيز حكيم ) على الزجر والتهديد .
الجواب : أن العزيز من لا يمنع عن مراده ، وذلك إنما يحصل بكمال القدرة ، وقد ثبت أنه سبحانه
[ ص: 180 ] وتعالى قادر على جميع الممكنات ، فكان عزيزا على الإطلاق ، فصار تقدير الآية : فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات ، فاعلموا أن الله مقتدر عليكم لا يمنعه مانع عنكم ، فلا يفوته ما يريده منكم وهذا نهاية في الوعيد ، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب ، وربما قال الوالد لولده : إن عصيتني فأنت عارف بي ، وأنت تعلم قدرتي عليك وشدة سطوتي ، فيكون هذا الكلام في الزجر أبلغ من ذكر الضرب وغيره ، فإن قيل : أفهذه الآية مشتملة على الوعد كما أنها مشتملة على الوعيد ؟ قلنا : نعم من حيث أتبعه بقوله : (
حكيم ) فإن اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء فكذلك يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن ، بل هذا أليق بالحكمة وأقرب للرحمة .
المسألة الثانية : احتج من قال بأنه لا وجوب لشيء قبل الشرع بهذه الآية قال : لأنه تعالى أثبت التهديد والوعيد بشرط مجيء البينات ، ولفظ "البينات" لفظ جمع يتناول الكل ، فهذا يدل على أن الوعيد مشروط بمجيء كل البينات وقبل الشرع لم تحصل كل البينات ، فوجب أن لا يحصل الوعيد ، فوجب أن لا يتقرر الوجوب قبل الشرع .
المسألة الثالثة : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13980أبو علي الجبائي : لو كان الأمر كما يقوله
المجبرة من أنه تعالى يريد من السفهاء والكفار السفاهة والكفر لما جاز أن يوصف بأنه حكيم ، لأن من فعل السفه وأراده كان سفيها ، والسفيه لا يكون حكيما . أجاب الأصحاب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمور ؛ فيرجع
معنى كونه تعالى حكيما إلى أنه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقا لكل الأشياء ومريدا لها ، بل يوجب ذلك لما بينا أنه لو أراد ما علم عدمه لكان قد أراد تجهيل نفسه فقالوا : لو لزم ذلك لكان إذا أمر بما علم عدمه فقد أمر بتجهيل نفسه .
قلنا : هذا إنما يلزم لو كان الأمر بالشيء أمرا بما لا يتم إلا به ، وهذا عندنا ممنوع فإن قالوا : لو لم يكن كذلك لزم تكليف ما لا يطاق ، قلنا : هذا عندنا جائز ، والله أعلم .
المسألة الرابعة : يحكى أن قارئا قرأ "غفور رحيم" فسمعه أعرابي فأنكره ، وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا ،
الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل ؛ لأنه إغراء عليه .