المسألة الرابعة : اعلم أنه تعالى راعى
الترتيب في الإنفاق ، فقدم الوالدين ; وذلك لأنهما كالمخرج له من العدم إلى الوجود في عالم الأسباب ، ثم ربياه في الحال الذي كان في غاية الضعف ، فكان إنعامهما على الابن أعظم من إنعام غيرهما عليه ، ولذلك قال تعالى : (
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين ) [الإسراء : 23] وفيه إشارة إلى أنه ليس بعد رعاية حق الله تعالى شيء أوجب من
رعاية حق الوالدين ; لأن
[ ص: 22 ] الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود في الحقيقة ، والوالدان هما اللذان أخرجاه إلى عالم الوجود في عالم الأسباب الظاهرة ، فثبت أن حقهما أعظم من حق غيرهما ; فلهذا أوجب تقديمهما على غيرهما في رعاية الحقوق ، ثم ذكر تعالى بعد الوالدين الأقربين ، والسبب فيه أن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء ، بل لا بد وأن يرجح البعض على البعض ، والترجيح لا بد له من مرجح ، والقرابة تصلح أن تكون سببا للترجيح من وجوه :
أحدها : أن القرابة مظنة المخالطة ، والمخالطة سبب لاطلاع كل واحد منهم على حال الآخر ، فإذا كان أحدهما غنيا والآخر فقيرا كان اطلاع الفقير على الغني أتم ، واطلاع الغني على الفقير أتم ، وذلك من أقوى الحوامل على الإنفاق .
وثانيها : أنه لو لم يراع جانب الفقير ، احتاج الفقير للرجوع إلى غيره ، وذلك عار وسيئة في حقه ، فالأولى أن يتكفل بمصالحهم دفعا للضرر عن النفس .
وثالثها : أن قريب الإنسان جار مجرى الجزء منه ، والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير ، فلهذا السبب كان
الإنفاق على القريب أولى من الإنفاق على البعيد ، ثم إن الله تعالى ذكر بعد الأقربين اليتامى ; وذلك لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب ولكونهم يتامى ليس لهم أحد يكتسب لهم ، فالطفل الذي مات أبوه قد عدم الكسب والكاسب , وأشرف على الضياع . ثم ذكر تعالى بعدهم المساكين ، وحاجة هؤلاء أقل من حاجة اليتامى ; لأن قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى . ثم ذكر تعالى بعدهم ابن السبيل فإنه بسبب انقطاعه عن بلده ، قد يقع في الاحتياج والفقر ، فهذا هو
الترتيب الصحيح الذي رتبه الله تعالى في كيفية الإنفاق ، ثم لما فصل هذا التفصيل الحسن الكامل أردفه بعد ذلك بالإجمال فقال : (
وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ) أي : وكل ما فعلتموه من خير إما من هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم حسبة لله وطلبا لجزيل ثوابه وهربا من أليم عقابه فإن الله به عليم ، والعليم مبالغة في كونه عالما ، يعني لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فيجازيكم أحسن الجزاء عليه ، كما قال : (
أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ) [آل عمران : 195] وقال : (
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) [الزلزلة : 7] .