المسألة الثانية : (
هاجروا ) أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم ، وأصله من الهجر الذي هو ضد الوصل ، ومنه قيل للكلام القبيح : هجر ; لأنه مما ينبغي أن يهجر ، والهاجرة وقت يهجر فيه العمل ، والمهاجرة مفاعلة من الهجرة ، وجاز أن يكون المراد منه أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين ، وهو أيضا هجرهم بهذا السبب ، فكان ذلك مهاجرة ، وأما المجاهدة فأصلها من الجهد الذي هو المشقة ، ويجوز أن يكون معنى المجاهدة أن يضم جهده إلى جهد آخر في نصرة دين الله ، كما أن المساعدة عبارة عن ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر ليحصل التأييد والقوة ، ويجوز أن يكون
المراد من المجاهدة بذل الجهد في قتال العدو ، وعند فعل العدو مثل ذلك فتصير مفاعلة .
ثم قال تعالى : (
أولئك يرجون رحمة الله ) وفيه قولان :
الأول : أن المراد منه الرجاء ، وهو عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها ، وأراد تعالى في هذا الموضع أنهم يطمعون في ثواب الله ; وذلك لأن
عبد الله بن جحش ما كان قاطعا بالفوز والثواب في عمله ، بل كان يتوقعه ويرجوه .
فإن قيل : لم جعل الوعد مطلقا بالرجاء ، ولم يقع به كما في سائر الآيات ؟
قلنا : الجواب من وجوه :
أحدها : أن مذهبنا أن
الثواب على الإيمان والعمل غير واجب عقلا ، بل بحكم الوعد ، فلذلك علقه بالرجاء .
وثانيها : هب أنه واجب عقلا بحكم الوعد ، ولكنه تعلق بأن لا يكفر بعد ذلك ، وهذا الشرط مشكوك فيه لا متيقن ، فلا جرم كان الحاصل هو الرجاء لا القطع .
وثالثها : أن المذكور ههنا هو الإيمان ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله ، ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال ، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها ، كما وفقه لهذه الثلاثة ، فلا جرم علقه على الرجاء .
ورابعها : ليس المراد من الآية أن الله شكك العبد في هذه المغفرة ، بل المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع الهجرة والجهاد ، مستقصرين أنفسهم في حق الله تعالى ، يرون أنهم لم يعبدوه حق عبادته ، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه ، فيقدمون على الله مع الخوف والرجاء ، كما قال : (
والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ) [المؤمنون : 60] .
القول الثاني : أن
المراد من الرجاء : القطع واليقين في أصل الثواب ، والظن إنما دخل في كميته وفي وقته ، وفيه وجوه قررناها في تفسير قوله تعالى : (
الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) [البقرة : 46] .
ثم قال تعالى : (
والله غفور رحيم ) أي إن الله تعالى يحقق لهم رجاءهم إذا ماتوا على الإيمان والعمل الصالح ، وأنه غفور رحيم ، غفر
لعبد الله بن جحش وأصحابه ما لم يعلموا ورحمهم .
[ ص: 35 ]