الحكم الرابع
في الإنفاق
(
ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة )
قوله تعالى : (
ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة )
[ ص: 42 ] اعلم أن هذا السؤال قد تقدم ذكره فأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد ههنا فأجيب عنه بذكر الكمية ، قال
القفال : قد يقول الرجل لآخر يسأله عن مذهب رجل وخلقه : ما فلان هذا ؟ فيقول : هو رجل من مذهبه كذا ، ومن خلقه كذا . إذا عرفت هذا فنقول : كان
الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق ويدلان على عظيم ثوابه ، سألوا عن مقدار ما كلفوا به ، هل هو كل المال أو بعضه ، فأعلمهم الله أن العفو مقبول ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال
الواحدي رحمه الله :
أصل العفو في اللغة الزيادة ، قال تعالى : (
خذ العفو ) [الأعراف : 199] أي الزيادة ، وقال أيضا : (
حتى عفوا ) [الأعراف : 95] أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد ، قال
القفال : العفو ما سهل وتيسر مما يكون فاضلا عن الكفاية ، يقال : خذ ما عفا لك ، أي ما تيسر ، ويشبه أن يكون العفو عن الذنب راجعا إلى التيسر والتسهيل ، قال عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011886عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا ربع عشر أموالكم " معناه التخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرقيق ، ويقال : أعفى فلان فلانا بحقه إذا أوصله إليه من غير إلحاح في المطالبة ، وهو راجع إلى التخفيف ، ويقال : أعطاه كذا عفوا صفوا ، إذا لم يكدر عليه بالأذى ، ويقال : خذ من الناس ما عفا لك أي ما تيسر ، ومنه قوله تعالى : (
خذ العفو ) أي ما سهل لك من الناس ، ويقال للأرض السهلة : العفو . وإذا كان العفو هو التيسير فالغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله ومن تلزمه مؤنتهم فقول من قال : العفو هو الزيادة راجع إلى التفسير الذي ذكرناه ، وجملة التأويل أن
الله تعالى أدب الناس في الإنفاق فقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : (
وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) [الإسراء : 26 ، 27] وقال : (
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) [الإسراء : 29] وقال : (
والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ) [الفرقان : 67] وقال صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011887إذا كان عند أحدكم شيء فليبدأ بنفسه ، ثم بمن يعول وهكذا وهكذا " وقال عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011888خير الصدقة ما أبقت غنى ولا يلام على كفاف " وعن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011889بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب فقال : يا رسول الله خذها صدقة فوالله لا أملك غيرها . فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أتاه من بين يديه ، فقال : هاتها مغضبا فأخذها منه ، ثم حذفه بها حيث لو أصابته لأوجعته ، ثم قال : يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره ، ثم يجلس يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى خذها فلا حاجة لنا فيها " .
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011890وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحبس لأهله قوت سنة ، وقال الحكماء :
الفضيلة بين طرفي الإفراط والتفريط ،
فالإنفاق الكثير هو التبذير ، والتقليل جدا هو التقتير ، والعدل هو الفضيلة وهو المراد من قوله : (
قل العفو ) ومدار شرع
محمد صلى الله عليه وسلم على رعاية هذه الدقيقة فشرع
اليهود مبناه على الخشونة التامة ، وشرع
النصارى على المسامحة التامة ، وشرع
محمد صلى الله عليه وسلم متوسط في كل هذه الأمور ، فلذلك كان أكمل من الكل .
المسألة الثانية : قرأ
أبو عمرو ( العفو ) بضم الواو والباقون بالنصب ، فمن رفع جعل ( ذا ) بمعنى ( الذي ) وينفقون صلته ، كأنه قال : ما الذي ينفقون ؟ فقال : هو العفو ، ومن نصب كان التقدير : ما ينفقون ؟ وجوابه : ينفقون العفو .