فصل
وينحر الهدي في موضع حصره حيث كان من حل ، أو حرم ، هذا هو المنصوص عن - في مواضع - وعليه أكثر أصحابه .
وقال
أبو بكر : إن أمكنه أن يبعث بالهدي حتى ينحر
بمكة في الموضع بعث به ، وإلا حل يوم النحر .
قال
ابن أبي موسى : قال بعض أصحابنا : لا ينحر هدي الإحصار إلا بالحرم .
[ ص: 371 ] لقوله (
هديا بالغ الكعبة ) ، وقوله : (
ثم محلها إلى البيت العتيق ) ؛ لأن الله قال : (
فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) ، ثم قال : (
ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) والهدي المطلق : إنما هو ما أهدي إلى الحرم بخلاف النسك ، ثم إنه قال : (
ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) . وهدي المحصر داخل في هذا ، لا سيما وقد تقدم ذكره .
ومحل الهدي : الحرم لقوله سبحانه : (
ثم محلها إلى البيت العتيق ) .
ولأنه لو كان محله موضع الحصر لكان قد بلغ محله ، ومن قال هذا زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نحر بالحرم ، وأن طرف
الحديبية من الحرم .
ووجه الأول : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما صدهم المشركون عن العمرة زمن الحديبية : نحروا وحلقوا
بالحديبية عند الشجرة وهي من الحل .
[ ص: 372 ] ولأن الحل : موضع للتحلل في حق المحصر ، فيكون موضعا للنحر كالحرم ، وهذا لأن محل شعائر الله إلى
البيت العتيق من الأعمال والهدي ، فمتى طاف المحرم
بالبيت : فقد شرع في التحلل ، ومتى وصلت الهدايا إلى الحرم : فقد بلغت محلها . وهذا عند القدرة والاختيار .
فأما في موضع العجز : فقد جوز الله للمحصر أن يحل من إحرامه بالحل ، وصار محلا له فكذلك يصير محلا لهديه ، ولا يقال : الهدي قد يمكن إرسالها .. . .
وأما قوله : (
ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) فإن محله المكان الذي يحل فيه ؛ وهذا في حال الاختيار هو الحرم ، كما قال : (
والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) . فأما حال الاضطرار فإنه قد حل ذبحه للمحصر حيث لا يحل لغيره .
وأما وقت الذبح والإحلال : ففيه روايتان ؛ إحداهما : أنه يذبحه وقت الإحصار ويحل عقيبه ، نقلها
الميموني ،
وأبو طالب ،
وابن منصور ، وهذه
[ ص: 373 ] اختيار أصحابنا .
والثانية : لا يذبح ويحل إلى يوم النحر ، وهي اختيار
أبي بكر ، قال - في رواية
أبي الحارث - فيمن أحصر بعدو : أقام حتى يعلم أن الحج قد فاته ، فإذا فاته الحج نحر الهدي ، وإن كان معه في موضعه ، ورجع إلى أهله وعليه الحج من قابل ، وإن كان إحصاره بمرض لم يحل من إحرامه حتى يطوف
بالبيت .
وقال - في رواية
ابن منصور - في
محرم أحصر بحج ومعه هدي قد ساقه : لا ينحر إلى يوم النحر ، فقيل له : قد يئس من الوصول إلى
البيت ، فقال : وإن يئس كيف ينحر قبل يوم النحر ، ولا يحل إلى يوم النحر . فإن لم يكن معه هدي صام عشرة أيام .
وذلك لقوله : (
ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) . والمحل : اسم للمكان ، وللوقت الذي يحل فيه ذبحه . ولهذا القول مأخذان ذكرهما
أحمد ؛ أحدهما : أن المحرم بالحج لا يحل إلى يوم النحر ، فإذا كان قد صد عن الوقوف والطواف : فهو لم يصد عن الإحرام : فيجب أن يأتي بما أمكنه ، وهو بقاؤه محرما إلى يوم النحر فحينئذ يتيقن فوت الحج ، فيتحلل بالهدي كما يتحلل المفوت المهل بعمرة ، وإلى هذا أشار في رواية
أبي الحارث .
الثاني : أن الهدي المسوق لا يجوز نحره إلا في الحرم يوم النحر ، فإذا لم
[ ص: 374 ] يمكن إيصاله إلى الحرم وجب أن يبقى إلى يوم النحر ، فإنه وقت ذبحه كدم التمتع والقران وكذلك غير المسوق ، فإن دم الإحصار يستفيد به التحلل كدم التمتع والقران ، فيجب أن يؤخر ذبحه إلى يوم النحر .
ووجه الأول : أن الله قال : (
فما استيسر من الهدي ) وهذا مطلق ومحله : هو ما يحل ذبحه فيه من مكان وزمان ، والشأن فيه : أن هذا إن سلم أن الوقت محل ، فقد قيل : إن المحل هو المكان خاصة ؛ لأن الله جعل المحل في الحج والعمرة ، وهدي العمرة لا وقت له يختص به .
وأيضا : لو لم يجز التحلل إلى يوم النحر لكان بمنزلة من فاته الحج ، والمفوت : لا يتحلل إلا بالعمرة كالمحصر بمرض . يبين ذلك أنه إذا فات الحج يبقى كالمحرم بعمرة ، والعمرة ليس لها وقت تفوت فيه ، فينبغي أن يبقى محرما إلى أن يصل كالمحصر بمرض ، ولكان ينبغي أن لا يجوز التحلل للمحرم إلا بعمرة إذ ليس لإحرامه غاية في الزمان .
وأيضا : فإن
هدي المحصر ليس بنسك محض ، وإنما هو دم جبران لما يستبيحه من المحظورات ، ويتركه من الواجبات ، ولهذا لا يأكل منه شيئا فلم ينفذ بوقت كفدية الأذى وترك الواجب . وعكسه دم المتعة .