صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى ( ولا يكره من ذلك إلا ما قصد إلى تشميسه فإنه يكره الوضوء به ، ومن أصحابنا من قال : لا يكره كما لا يكره بماء تشمس في البرك والأنهار ، والمذهب : الأول ، والدليل عليه ما روي : { أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 133 ] قال لعائشة وقد سخنت ماء بالشمس يا حميراء لا تفعلي هذا ، فإنه يورث البرص } ( ويخالف ) ماء البرك والأنهار ; لأن ذلك لا يمكن حفظه من الشمس ، ولم يتعلق به المنع ) .


( الشرح ) هذا الحديث المذكور ضعيف باتفاق المحدثين ، وقد رواه البيهقي من طرق وبين ضعفها كلها ، ومنهم من يجعله موضوعا ، وقد روى الشافعي في الأم بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يكره الاغتسال بالماء المشمس وقال : إنه يورث البرص ، وهذا ضعيف أيضا باتفاق المحدثين ، فإنه من رواية إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ، وقد اتفقوا على تضعيفه وجرحوه . وبينوا أسباب الجرح إلا الشافعي - رحمه الله - فإنه وثقه ، فحصل من هذا : أن المشمس لا أصل لكراهته ، ولم يثبت عن الأطباء فيه شيء ، فالصواب : الجزم بأنه لا كراهة فيه وهذا هو الوجه الذي حكاه المصنف وضعفه .

وكذا ضعفه غيره وليس بضعيف ، بل هو الصواب الموافق للدليل ولنص الشافعي ، فإنه قال في الأم : لا أكره المشمس إلا أن يكره من جهة الطب ، كذا رأيته في الأم ، وكذا نقله البيهقي بإسناده في كتابه معرفة السنن والآثار عن الشافعي ، وأما قوله في مختصر المزني : " إلا من جهة الطب لكراهة عمر لذلك وقوله : إنه يورث البرص " فليس صريحا في مخالفة نصه في الأم ، بل يمكن حمله عليه ، فيكون معناه لا أكرهه إلا من جهة الطب إن قال أهل الطب : إنه يورث البرص ، فهذا ما نعتقده في المسألة وما هو كلام الشافعي .

ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وداود والجمهور : أنه لا كراهة كما هو المختار . وأما الأصحاب فمجموع ما ذكروا فيه سبعة أوجه .

( أحدها ) : لا يكره مطلقا كما سبق ( والثاني ) : يكره في كل الأواني والبلاد بشرط القصد إلى تشميسه ، وهو الأشهر عند العراقيين ، وزعم صاحب البيان أنه المنصوص وبه قطع المصنف في التنبيه والقاضي أبو علي الحسن بن عمر البندنيجي ، من كبار العراقيين في كتابه الجامع .

( والثالث ) : يكره مطلقا ولا يشترط القصد وهو المختار عند صاحب الحاوي قال : ومن اعتبر القصد فقد غلط .

[ ص: 134 ] والرابع ) : يكره في البلاد الحارة في الأواني المنطبعة وهي المطرقة ، ولا يشترط القصد ولا تغطية رأس الإناء وهذا هو الأشهر عند الخراسانيين ، وغلط إمام الحرمين العراقيين في اشتراط القصد ، وعلى هذا فالمراد بالمنطبعة أوجه : ( أحدها ) : جميع ما يطرق وهو قول الشيخ أبي محمد الجويني ( والثاني ) : أنها النحاس خاصة وهو قول الصيدلاني ( والثالث ) : كل ما يطرق إلا الذهب والفضة لصفائهما ، واختاره إمام الحرمين .

( والخامس ) : يكره في المنطبعة بشرط تغطية رأس الإناء حكاه البغوي ، وجزم به شيخه القاضي حسين وصاحب التتمة ( والسادس ) : إن قال طبيبان يورث البرص كره ، وإلا فلا ، حكاه صاحب البيان وغيره وضعفوه وزعموا : أن الحديث لم يفرق فيه ولم يقيد بسؤال الأطباء ، وهذا التضعيف غلط بل هذا الوجه هو الصواب إن لم يجزم بعدم الكراهة ، وهو موافق لنصه في الأم ، لكن اشتراط طبيبين ضعيف بل يكفي واحد فإنه من باب الإخبار ( والسابع ) : يكره في البدن دون الثوب ، حكاه صاحب البيان وهو ضعيف أو غلط فإنه يوهم : أن الأوجه السابقة عامة للبدن والثوب وليس كذلك ، بل الصواب ما قاله صاحب الحاوي : أن الكراهة تختص باستعماله في البدن في طهارة حدث أو نجس أو تبرد أو تنظف أو شرب .

قال : وسواء لاقى البدن في عبادة أم غيرها ، قال : ولا كراهة في استعماله فيما لا يلاقي البدن من غسل ثوب وإناء وأرض ; لأن الكراهة للبرص ، وهذا مختص بالجسد ، قال : فإن استعمله في طعام وأراد أكله ، فإن كان مائعا كالمرق ، كره وإن لم يبق مائعا كالخبز والأرز المطبوخ به لم يكره ، هذا كلام صاحب الحاوي وذكر مثله صاحب البحر وهو الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني .

وإذا قلنا بالكراهة فتبرد ففي زوالها أوجه ، حكاها الروياني وغيره ، ثالثها : إن قال طبيبان : يورث البرص كره وإلا فلا . [ ص: 135 ] وحيث أثبتنا الكراهة فهي كراهة تنزيه ، وهل هي شرعية يتعلق الثواب بتركها وإن لم يعاقب على فعلها ؟ أم إرشادية لمصلحة دنيوية لا ثواب ولا عقاب في فعلها ولا بتركها ؟ فيه وجهان ذكرهما الشيخ أبو عمرو بن الصلاح ، قال : واختار الغزالي الإرشادية ، وصرح الغزالي به في درسه قال : وهو ظاهر نص الشافعي قال : والأظهر واختيار صاحبي الحاوي والمهذب وغيرهما الشرعية . قلت : هذا الثاني هو المشهور عن الأصحاب والله أعلم .

( فرع ) قوله : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : رضي الله عنها هذه عبارة جيدة ; لأنه حديث ضعيف ، فيقال فيه : روي بصيغة التمريض ، وعائشة رضي الله عنها تكنى أم عبد الله كنيت بابن أختها أسماء عبد الله بن الزبير ، وهي عائشة بنت أبي بكر عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشية التميمية ، تلتقي مع رسول الله في مرة بن كعب ، وسبق باقي نسبها في نسب رسول الله أول الكتاب ، ومناقب عائشة كثيرة مشهورة ذكرت منها جملة صالحة في تهذيب الأسماء .

توفيت سنة ثمان وقيل : تسع وقيل : سبع وخمسين بالمدينة ، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بكرا غيرها ، وأقامت عنده تسع سنين ، وتوفي وهي بنت ثمان عشرة . وقول المصنف : " قصد إلى تشميسه " صحيح ، وزعم بعض الغالطين أنه لا يقال قصد إلى كذا بل قصد كذا ، وهذا خطأ بل يقال : قصدته وقصدت إليه وقصدت له ، ثلاث لغات حكاهن ابن القطاع وغيره . ومن أظرف الأشياء : أن اللغات الثلاث اجتمعت متوالية في حديث واحد في صحيح مسلم في نحو سطر ، عن جندب البجلي : رضي الله عنه " أن رجلا من المشركين كان إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله . وأن رجلا من المسلمين قصد غفلته " ، وهذا نصه بحروفه ، والله أعلم .

وأما قوله : كما لا يكره ماء تشمس في البرك والأنهار متفق عليه ; لعدم إمكان الصيانة وتأثير الشمس .

التالي السابق


الخدمات العلمية