قال المصنف رحمه الله تعالى ( وأما الدماء فينظر فيها فإن كان دم القمل والبراغيث وما أشبههما فإنه يعفى عن قليله ; لأنه يشق الاحتراز منه ، فلو لم يعف عنه شق وضاق ، وقد قال الله تعالى { : وما جعل عليكم في الدين من حرج } وفي كثيره وجهان ، قال nindex.php?page=showalam&ids=13785أبو سعيد الإصطخري : لا يعفى عنه ; لأنه نادر لا يشق غسله ، وقال غيره يعفى عنه وهو الأصح ; لأن هذا الجنس يشق الاحتراز منه في الغالب فألحق نادره بغالبه ، وإن كان دم غيرهما من الحيوانات ففيه ثلاثة أقوال ، قال في الأم : يعفى عن قليله ، وهو القدر الذي يتعافاه الناس في العادة ; لأن الإنسان لا يخلو من بثرة وحكة يخرج منها هذا القدر فعفي عنه ، وقال في الإملاء : لا يعفى عن قليله ولا عن كثيره ; لأنه نجاسة لا يشق الاحتراز منها فلم يعف عنها كالبول ، وقال في القديم : يعفى عما دون الكف والأول أصح ) .
( الشرح ) البثرة بإسكان الثاء ويقال بفتحها لغتان ، والإسكان أشهر ، وهي خراج صغير ، ويقال بثر وجهه بكسر الثاء وضمها وفتحها ، ثلاث لغات حكاهن nindex.php?page=showalam&ids=14042الجوهري وغيره ، والحكة بكسر الحاء وهي الجرب ، ذكره [ ص: 142 ] nindex.php?page=showalam&ids=14042الجوهري . أما دم القمل والبراغيث والبق والقردان وغيرهما مما لا نفس له سائلة فهو نجس عندنا كما سبق في باب إزالة النجاسة ، وذكرنا خلاف nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد فيه ، واتفق أصحابنا على أنه يعفى عن قليله ، وفي كثيره وجهان مشهوران أحدهما قال الإصطخري : لا يعفى عنه ، وأصحهما باتفاق الأصحاب يعفى عنه قال nindex.php?page=showalam&ids=11872القاضي أبو الطيب : هذا قول ابن سريج nindex.php?page=showalam&ids=11817وأبي إسحاق المروزي قال صاحب البيان هذا قول عامة أصحابنا . وقال المحاملي في المجموع هذا قول ابن سريج nindex.php?page=showalam&ids=11817وأبي إسحاق وسائر أصحابنا قال الشيخ nindex.php?page=showalam&ids=11976أبو حامد والمحاملي في التجريد : القليل هو ما تعافاه الناس أي : عدوه عفوا وتساهلوا فيه ، والكثير ما غلب على الثوب وطيته .
وذكر الخراسانيون في ضبط القليل كلاما طويلا اختصره الرافعي ولخصه فقال في قول قديم : القليل قدر دينار . وفي قديم آخر : القليل ما دون الكف وعلى الجديد وجهان .
( أحدهما ) الكثير ما يظهر للناظر من غير تأمل وإمعان طلب والقليل دونه ، ( وأصحهما ) الرجوع إلى العادة ، فما يقع التلطخ به غالبا ويعسر الاحتراز منه فقليل ، وما لا فكثير ، فعلى الأول لا يختلف ذلك باختلاف البلاد والأوقات . وعلى الثاني وجهان : ( أحدهما ) يعتبر الوسط المعتدل فلا يعتبر من البلاد والأوقات ما يندر ذلك فيه أو يتفاحش ( وأصحهما ) يختلف باختلاف الأوقات والبلاد ، ويجتهد المصلي هل هو قليل أم كثير ؟ فلو شك ففيه احتمالان لإمام الحرمين ( أرجحهما ) وبه قطع الغزالي له حكم القليل ( والثاني ) له حكم الكثير ، وسواء في كل ما ذكرناه ما كان من هذا الدم في الثوب والبدن بالاتفاق ، فلو كان قليلا فعرق وانتشر التلطخ بسببه ففيه الوجهان في الكثير ، حكاهما المتولي والبغوي . قال الشيخ أبو عاصم : يعفى عنه . وقال nindex.php?page=showalam&ids=14958القاضي حسين لا يعفى عنه ولو أخذ قملة أو برغوثا وقتله في ثوبه أو بدنه أو بين أصبعيه فتلوثت به قال المتولي : إن كثر ذلك لم يعف عنه ، وإن كان قليلا فوجهان أصحهما يعفى عنه ، قال : ولو كان دم البراغيث في ثوب في كمه وصلى به أو بسطه وصلى عليه ، فإن كان كثيرا لم تصح صلاته ، وإن كان قليلا فوجهان .
أما دم ما له نفس سائلة من آدمي وسائر الحيوانات ففيه الأقوال الثلاثة التي ذكرها المصنف وهي مشهورة ، أصحها بالاتفاق قوله في الأم : إنه يعفى عن [ ص: 143 ] قليله ، وهو القدر الذي يتعافاه الناس في العادة ، يعني يعدونه عفوا ، قال الأزهري يعدونه عفوا قد عفي لهم عنه ، ولم يكلفوا إزالته للمشقة في التحفظ منه . قال صاحب الشامل : قدره بعض أصحابنا بلمعة ، وهذه الأقوال في دم غيره من آدمي وحيوان آخر ، وأما دم نفسه فضربان أحدهما ما يخرج من بثرة من دم وقيح وصديد فله حكم دم البراغيث بالاتفاق ، يعفى عن قليله قطعا ، وفي كثيره الوجهان أصحهما العفو ، فلو عصر بثرة فخرج منها دم قليل عفي عنه على أصح الوجهين . وهما كالوجهين السابقين في دم القملة ونحوها إذا عصره في ثوبه أو بدنه .
( الضرب الثاني ) ما يخرج منه لا من البثرات بل من الدماميل والقروح وموضع الفصد والحجامة وغيرها . وفيه طريقان ( أحدهما ) أنه كدم البراغيث والبثرات فيعفى عن قليله . وفي كثيره الوجهان قال الرافعي هذا مقتضى كلام الأكثرين . ( والثاني ) وهو الأصح واختاره ابن كج والشيخ nindex.php?page=showalam&ids=14048أبو محمد وإمام الحرمين : وهو ظاهر كلام المصنف وسائر العراقيين أنه كدم الأجنبي . فأما دم الاستحاضة وما يدوم غالبا فسبق حكمه في باب الحيض وأما ماء القروح فسبق في باب إزالة النجاسة أنه إن تغيرت رائحته فهو نجس وإلا فطريقان ( أصحهما ) أنه طاهر . ( والثاني ) على قولين . وحيث نجسناه فهو كالبثرات ، قال أصحابنا : وقيح الأجنبي وصديده وسائر الحيوان كدم ذلك الحيوان . ثم الجمهور أطلقوا الكلام في الدماء على ما سبق ، وقيد صاحب البيان الخلاف في العفو بغير دم الكلب والخنزير وما تولد من أحدهما وأشار إلى أنه لا يعفى عن شيء منه بلا خلاف قال البغوي وحكم ونيم الذباب وبول الخفاش حكم الدم لتعذر الاحتراز .
( فرع ) في مذاهب العلماء في الدماء : ذكرنا مذهبنا ، وحكى الشيخ أبو حامد عن nindex.php?page=showalam&ids=0016867مالك أنه يعفى عما دون نصف الثوب ولا يعفى عن نصفه ، وعن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد يعفى عما دون شبر في شبر ، وعن nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة أن النجاسة من الدم وغيره إن كانت قدر درهم بغلي عفي عنها ، ويعفى عن أكثر ، وعن nindex.php?page=showalam&ids=12354النخعي والأوزاعي يعفى عن قدر دون درهم لا عن درهم .