( الشرح ) هذه الأوجه مشهورة ودلائلها كما ذكره المصنف وأصحها عند الجمهور الوجه الثاني ، وهو أنها إن غابت وأمكن ورودها على ماء كثير بحيث إذا ولغت فيه طهر فمها ثم رجعت فولغت لم ينجس ما ولغت فيه ، وإن ولغت قبل أن تغيب أو بعد أن غابت ولم يمكن ورودها على الماء الموصوف نجسته ، ودليل هذا الصحيح أنها إذا غابت ثم ولغت فقد تيقنا طهارة الماء وشككنا في نجاسة فمها ، فلا ينجس الماء المتيقن بالشك ، وإذا لم تغب وولغت فهي نجاسة متيقنة . وليس في الحديث أن الهرة كانت نجسة الفم وما يستدل به القائل بالطهارة مطلقا من عسر الاحتراز عنها لا يسلم ، فإن العسر إنما هو في الاحتراز من مطلق الولوغ ، لا من ولوغ بعد تيقن النجاسة ، وحكي عن المصنف أنه صحح أنها لا تنجسه بحال ، وهذا هو الأحسن عند الغزالي في الوجيز ، ودليله الحديث وعموم الحاجة وعسر الاحتراز وقد قال الله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وفي تنجيس هذا حرج ، وقد علم أن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بحضرته ماء كثير يطهر فمها ، ولم يعلل صلى الله عليه وسلم بورودها الماء بل بعسر الاحتراز . وخالف صاحب الحاوي الأصحاب فقال : إن ولغت قبل أن تغيب نجسته [ ص: 223 ] وإن غابت فوجهان الأصح تنجسه . ذكره في مسألة اشتراط الماء في إزالة النجاسة ، والمشهور تصحيحه ما قدمناه من الفرق بين غيبتها وعدمها ، وكذا نقل الرافعي عن معظم الأصحاب تصحيحه . ثم صورة المسألة إذا تيقنا نجاسة فمها بأكل نجاسة أو ولوغها في ماء نجس أو نجاسة فمها بدم أو غيره ، ولا فرق في هذا كله بين ولوغها في ماء ناقص عن قلتين أو مائع آخر والله أعلم .
( فرع ) وأما الحديث المذكور فصحيح رواه الأئمة الأعلام nindex.php?page=showalam&ids=0016867مالك في الموطأ nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي في مواضع ، وأبو داود والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15395والنسائي وغيرهم ، وهذا الحديث عمدة مذهبنا في طهارة سؤر السباع وسائر الحيوان ، غير الكلب والخنزير وفرع أحدهما ، فأنا أنقله بلفظه واختلاف طرقه لشدة الحاجة إلى تحقيقه . فلفظ رواية nindex.php?page=showalam&ids=0016867مالك عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت nindex.php?page=showalam&ids=60أبي قتادة قالت : " دخل nindex.php?page=showalam&ids=60أبو قتادة فسكبت له وضوءا فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة : فرآني أنظر إليه ، فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ؟ قلت : نعم فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=12713إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات } هذا لفظ رواية nindex.php?page=showalam&ids=0016867مالك ورواية الترمذي مثلها بحروفها إلا أن رواية nindex.php?page=showalam&ids=0016867مالك { nindex.php?page=hadith&LINKID=8697أو الطوافات } بأو " ورواية الترمذي { nindex.php?page=hadith&LINKID=12557إنما هي من الطوافين والطوافات } بالواو وبحذف عليكم . وفي رواية الدارمي وأبي داود عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة ، ثم في رواية أبي داود { nindex.php?page=hadith&LINKID=39801والطوافات } وفي رواية الدارمي { nindex.php?page=hadith&LINKID=8697أو الطوافات } بأو وفي رواية nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه عن كبشة بنت كعب وكانت تحت بعض ولد nindex.php?page=showalam&ids=60أبي قتادة وفيها { nindex.php?page=hadith&LINKID=39801والطوافات } بالواو ، ورواه الربيع عن nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي عن nindex.php?page=showalam&ids=0016867مالك بالإسناد . وقال في كبشة : وكانت تحت ابن أبي قتادة ، أو nindex.php?page=showalam&ids=60أبي قتادة ، قال nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي : الشك من الربيع ، وقال فيه أو الطوافات بأو . وقال [ ص: 224 ] nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي : ورواه الربيع في موضع آخر عن nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وقال : وكانت تحت ابن أبي قتادة ، ولم يشك ، ورواه nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي بإسناده عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أو مثل معناه . وروى أبو داود nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه هذا الحديث أيضا من رواية nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة وفيه زيادة قالت nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة { nindex.php?page=hadith&LINKID=41732 : وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضلها } قال الترمذي : حديث nindex.php?page=showalam&ids=60أبي قتادة حسن صحيح قال : وهو أحسن شيء في الباب . قال nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي : إسناده صحيح وعليه الاعتماد وأما لفظة { nindex.php?page=hadith&LINKID=8697أو الطوافات } فرويت بأو وبالواو كما ذكرناها ، قال صاحب مطالع الأنوار : ويحتمل " أو " أن تكون للشك ويحتمل أن تكون للتقسيم ، ويكون ذكر الصنفين من الذكور والإناث . وهذا الذي قاله محتمل ، وهو الأظهر لأنه للنوعين كما جاء في روايات الواو ، قال أهل اللغة : الطوافون الخدم والمماليك . وقيل : هم الذين يخدمون برفق وعناية . ومعنى الحديث أن الطوافين من الخدم والصغار الذين سقط في حقهم الحجاب والاستئذان في غير الأوقات الثلاث التي ذكرها الله تعالى إنما سقط في حقهم دون غيرهم للضرورة وكثرة مداخلتهم بخلاف الأحرار البالغين ، فكذا يعفى عن الهرة للحاجة ، وقد أشار إلى نحو هذا المعنى أبو بكر بن العربي في كتابه ( عارضة الأحوذي في شرح الترمذي )
وذكر nindex.php?page=showalam&ids=14228أبو سليمان الخطابي أن هذا الحديث يتأول على وجهين : أحدهما أنه شبهها بخدم البيت ومن يطوف على أهله للخدمة ( والثاني ) شبهها بمن يطوف للحاجة والمسألة ومعناه الأجر في مواساتها كالأجر في مواساة من يطوف للحاجة والمسألة ، وهذا التأويل الثاني قد يأباه سياق قوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=12713إنها ليست بنجس } والله أعلم .
( فرع ) : سؤر الحيوان مهموز ، وهو ما بقي في الإناء بعد شربه أو أكله ، ومراد الفقهاء بقولهم سؤر الحيوان طاهر أو نجس : لعابه ورطوبة [ ص: 225 ] فمه ، ومذهبنا أن سؤر الهرة طاهر غير مكروه وكذا سؤر جميع الحيوانات من الخيل والبغال والحمير والسباع والفأرة والحيات وسام أبرص وسائر الحيوان المأكول وغير المأكول ، فسؤر الجميع وعرقه طاهر غير مكروه إلا الكلب والخنزير وفرع أحدهما ، وحكى صاحب الحاوي مثل مذهبنا عن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي nindex.php?page=showalam&ids=3وأبي هريرة nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن البصري nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء والقاسم بن محمد وكره nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=16330وابن أبي ليلى سؤر الهرة وكذا كرهه nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=15990ابن المسيب nindex.php?page=showalam&ids=16972وابن سيرين : يغسل الإناء من ولوغه مرة ، وعن nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس قال : يغسل سبعا ، وقال جمهور العلماء : لا يكره كقولنا .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة : الحيوان أربعة أقسام ( أحدها ) مأكول كالبقر والغنم فسؤره طاهر ( والثاني ) سباع الدواب كالأسد والذئب فهي نجسة ( والثالث ) سباع الطير كالبازي والصقر فهي طاهرة السؤر إلا أنه يكره استعماله وكذا الهر ( الرابع ) البغل والحمار مشكوك في سؤرهما لا يقطع بطهارته ولا بنجاسته ولا يجوز الوضوء به ، واختلف قوله في سؤر الفرس والبرذون . واحتج من منع الطهارة بسؤر السباع بحديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون بالفلاة وما ينوبه من السباع والدواب فقال { nindex.php?page=hadith&LINKID=10454 : إذا كان الماء قلتين لم ينجس } قالوا : فهذا يدل على أن لورود السباع تأثيرا في تنجيس الماء ، ولأنه حيوان لبنه نجس فكذا سؤره كالكلب . واحتج أصحابنا بحديث nindex.php?page=showalam&ids=60أبي قتادة في الهرة ليست بنجس وهو صحيح كما سبق بيانه ، قال nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي وغيره من أصحابنا : هذا الحديث هو عمدة المذهب ، واحتجوا برواية nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي عن إبراهيم بن محمد وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن nindex.php?page=showalam&ids=15855داود بن الحصين عن أبيه عن nindex.php?page=showalam&ids=36جابر { nindex.php?page=hadith&LINKID=3950أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 226 ] قيل له : أنتوضأ بما أفضلت الحمر ؟ قال . نعم وبما أفضلت السباع } وهذا الحديث ضعيف لأن الإبراهيمين ضعيفان جدا عند أهل الحديث لا يحتج بهما .
وإنما ذكرت هذا الحديث وإن كان ضعيفا لكونه مشهورا في كتب الأصحاب ، وربما اعتمده بعضهم فنبهت عليه ولم يذكره nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي والمحققون من أصحابنا معتمدين عليه بل تقوية واعتضادا . واعتمدوا حديث nindex.php?page=showalam&ids=60أبي قتادة وقد قال nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في حديث الإبراهيمين : إذا ضمت أسانيده بعضها إلى بعض أخذت قوة . ومما احتج أصحابنا به ما رواه nindex.php?page=showalam&ids=0016867مالك في الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في ركب فيه nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو بن العاص : يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع ؟ فقال nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب " يا صاحب الحوض لا تخبره فإنما نرد على السباع وترد علينا " . وموضع الدلالة أن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر قال : " نرد على السباع وترد علينا " ولم يخالفه nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو ولا غيره من الصحابة رضي الله عنهم وهذا الأثر إسناده صحيح إلى يحيى بن عبد الرحمن لكنه مرسل منقطع ، فإن يحيى وإن كان ثقة فلم يدرك nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بل ولد في خلافة عثمان هذا هو الصواب قال nindex.php?page=showalam&ids=17336يحيى بن معين : يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر باطل ، وكذا قاله غير ابن معين إلا أن هذا المرسل له شواهد تقويه والمرسل عند nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي إذا اعتضد احتج به كما سبق بيانه في مقدمة الكتاب ، وهو حجة عند nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة مطلقا فيحتج به عليهم واحتج أصحابنا من القياس بأنه حيوان يجوز بيعه فكان سؤره طاهرا كالشاة . فإن قال المخالف : لا حجة لكم في هذه الأحاديث لأنها محمولة على ماء كثير فالجواب أن الحديث عام فلا يخص إلا بدليل . فإن قالوا : هذا الخبر ورد قبل تحريم لحوم السباع ، فالجواب من أوجه أجاب بها الشيخ nindex.php?page=showalam&ids=11976أبو حامد وغيره ( أحدها ) هذا غلط فلم تكن السباع في وقت حلالا ، وقائل هذا يدعي نسخا والأصل عدمه ( الثاني ) هذا فاسد [ ص: 227 ] لا يسألون عن سؤره وهو مأكول اللحم ، فإنه لا فرق حينئذ بين السباع وغيرها ( الثالث ) لو صح هذا وكان لحمها حلالا ثم حرم ، بقي السؤر على ما كان من الطهارة حتى يرد دليل تنجيسه .
وأما الجواب عما احتجوا به من الخبر فمن أوجه ( أحدها ) أنه تمسك بدليل الخطاب وهم لا يقولون به ( الثاني ) أن السؤال كان عن الماء الذي ترده الدواب والسباع فتشرب منه وتبول فيه غالبا ( الثالث ) أن الكلاب كانت من جملة ما يرد فالتنجيس بسببها ، ويدل على دخول الكلاب في ذلك أوجه ( أحدها ) أنه جاء في رواية " الدواب والسباع والكلاب " ( الثاني ) أنها من جملة السباع ( الثالث ) أنها داخلة في الدواب وأما قياسهم على الكلب فهو قياس في مقابلة النص فلا يقبل ولأن الكلب ورد الشرع بتغليظ نجاسته وغسلها سبعا للتنفير منه ، وأن الملائكة عليهم السلام لا تدخل بيتا فيه كلب ، وليس غيره في معناه فلا يصح قياسه عليه ، هذا ما يتعلق بسؤر السباع جملة وأما الهرة فاستدل أصحاب nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة رحمه الله لكراهة سؤرها بحديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=44062يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا ومن ولوغ الهرة مرة } ولأنها لا تجتنب النجاسة فكره سؤرها واحتج أصحابنا بحديث nindex.php?page=showalam&ids=60أبي قتادة وحديث nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة وغير ذلك مما قدمناه واضحا ، ولأنه حيوان يجوز اقتناؤه لغير حاجة فكان سؤره طاهرا غير مكروه كالشاة .
وأما الجواب عن حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة فهو أن قوله : { من ولوغ الهرة مرة } ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل هو مدرج في الحديث من كلام nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة موقوفا عليه ، كذا قاله الحفاظ ، وقد بين nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي وغيره ذلك ونقلوا دلائله وكلام الحفاظ فيه ، قال nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي : وروي عن أبي صالح عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة يغسل الإناء من الهرة كما يغسل من الكلب ، وليس بمحفوظ ، وعن nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة وهو خطأ من nindex.php?page=showalam&ids=16861ليث بن أبي سليم ، إنما رواه nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج وغيره عن nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء من قوله ، قال : وروي عن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر كراهة الوضوء بفضل الهرة . [ ص: 228 ] قال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله : الهرة ليست بنجس فنتوضأ بفضلها ونكتفي بالخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكون في أحد قال خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة ، قال أصحابنا : ولو صح حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة لم يكن فيه دليل لأنه متروك الظاهر بالاتفاق ، فإن ظاهره يقتضي وجوب غسل الإناء من ولوغ الهرة ولا يجب ذلك بالإجماع . قال nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي : وزعم nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي أن حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة صحيح ولم يعلم أن الثقة من أصحابه ميزه من الحديث وجعله من قول nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة . وأما قولهم : لا تجتنب النجاسة فمنتقض باليهودي وشارب الخمر فإنه لا يكره سؤرهما والله أعلم