[ ص: 267 ] قال المصنف رحمه الله تعالى باب الآنية ( كل حيوان نجس بالموت طهر جلده بالدباغ وهو ما عدا الكلب والخنزير لقوله صلى الله عليه وسلم : { nindex.php?page=hadith&LINKID=8962أيما إهاب دبغ فقد طهر } ولأن الدباغ يحفظ الصحة على الجلد ويصلحه للانتفاع به كالحياة ثم الحياة تدفع النجاسة عن الجلد فكذلك الدباغ ، وأما الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما فلا يطهر جلدهما بالدباغ لأن الدباغ كالحياة ثم الحياة لا تدفع النجاسة عن الكلب والخنزير فكذلك الدباغ ) .
( الشرح ) : الآنية جمع إناء وجمع الآنية الأواني ، فالإناء مفرد وجمعه آنية والأواني جمع الجمع فلا يستعمل في أقل من تسعة إلا مجازا . وأما استعمال الغزالي رحمه الله وجماعة من الخراسانيين الآنية في المفرد فليس بصحيح في اللغة ، قال nindex.php?page=showalam&ids=14042الجوهري : جمع الإناء آنية وجمع الآنية الأواني كسقاء وأسقية وأساق . وأما الحديث المذكور فصحيح رواه nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15395والنسائي وغيرهم من رواية nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما أما nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم فذكره في آخر كتاب الطهارة وأما أبو داود والترمذي ففي كتاب اللباس nindex.php?page=showalam&ids=15395والنسائي في الذبائح وهذا المذكور لفظ رواية الترمذي وقليلين ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح وأما رواية nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم وأبي داود وآخرين ففيها " { nindex.php?page=hadith&LINKID=9923إذا دبغ الإهاب فقد طهر } وقد جمعت طرقه واختلاف ألفاظه في كتاب جامع السنة . ويقال طهر بفتح الهاء وضمها والفتح أفصح وأشهر وقد سبق بيانه في أول كتاب الطهارة . وأما الإهاب بكسر الهمزة فجمعه أهب بضم الهمزة والهاء ، وأهب بفتحهما لغتان ، واختلف أهل اللغة فيه فقال إمام اللغة والعربية أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد رحمه الله الإهاب هو الجلد قبل أن يدبغ ، وكذا ذكره nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود السجستاني في سننه وحكاه عن nindex.php?page=showalam&ids=15409النضر بن شميل ولم يذكر غيره ، وكذا قاله nindex.php?page=showalam&ids=14042الجوهري وآخرون من أهل اللغة ، وذكر الأزهري في شرح ألفاظ المختصر nindex.php?page=showalam&ids=14228والخطابي وغيرهما أنه الجلد ولم يقيدوه بما لم يدبغ . [ ص: 268 ] الخنزير معروف واختلف أهل العربية في نونه هل هي زائدة أم أصلية ؟ وقد أوضحته في تهذيب الأسماء واللغات .
وأما قول المصنف : " فكل حيوان نجس بالموت " فمعناه حكمنا بعد موته بأنه نجس فيدخل فيه الكلب والخنزير فلهذا استثناه المصنف فقال : ما عدا الكلب والخنزير ، وقد ادعى بعضهم أن هذا الاستثناء ليس بصحيح وأنه لا حاجة إليه وزعم أن بقوله : " نجس بالموت " يخرج الكلب والخنزير لأنه لم ينجس بالموت بل كان نجسا قبله واستمرت نجاسته ، هذا الإنكار باطل وإنما حصل الإنكار لحمله كلام المصنف على غير مراده الذي ذكرته فالصواب ما قدمته والله أعلم .
( أما حكم المسألة ) فكل الجلود النجسة بعد الموت تطهر بالدباغ إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما ، وهذا متفق عليه عندنا وسنذكر مذاهب العلماء فيه إن شاء الله تعالى في فرع ، وحكى المتولي والروياني وجها أن جلد الميتة ليس بنجس . حكاه المتولي عن حكاية ابن القطان قال وإنما أمر بالدبغ بسبب الزهومة التي في الجلد فإنها نجسة فيؤمر بالدبغ لإزالتها كما يغسل الثوب من النجاسة ، وهذا الوجه في نهاية الضعف وغاية الشذوذ ، وفساده أظهر من أن يذكر . وكيف يصح هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=9923إذا دبغ الإهاب فقد طهر } . فإن قيل : ليس في الحديث أن الجلد نجس العين فتحمل الطهارة فيه على الطهارة من نجاسة المجاورة بالزهومة كما يقال : طهر ثوبه إذا غسل من النجاسة ، فالجواب أن هذا تأويل بعيد ليس له دليل يعضده ولا حاجة تسنده فهو مردود على قائله ، وتخصيصه الجلد بالطهارة دون باقي الأعضاء والأجزاء دليل على تناقض قوله وقد قال إمام الحرمين : اتفق علماؤنا على أن جلد الميتة قبل الدباغ نجس ، وكذا صرح بنقل الاتفاق عليه آخرون ، والله أعلم .
وأما الكلب والخنزير وفرع أحدهما فلا يطهر جلده بالدباغ بلا خلاف لما ذكره المصنف ، وقوله : فلا يطهر جلدها بالدباغ وفي بعض النسخ المعتمدة جلدهما بالتثنية ، وكلاهما صحيح ، فالتثنية تعود إلى النوعين ، وقوله : [ ص: 269 ] جلدها يعود إلى الأنواع الأربعة الكلب والخنزير واللذان بعدهما
وأما قوله : ( كل حيوان نجس بالموت ) فاحتراز مما لا ينجس بالموت بل يبقى طاهرا ، وذلك خمسة أنواع ذكرها صاحب الحاوي : السمك والجراد والجنين بعد ذكاة أمه ، والصيد إذا قتله الكلب أو السهم بشرطه ، والخامس الآدمي على أصح القولين . فهذه ميتات طاهر لحمها وجلدها ، فأما الجراد فلا جلد له والسمك منه ما لا جلد له ومنه ما له جلد كعظيم حيتان البحر ، والجنين والصيد لهما جلد فيتصرف فيه بلا دباغ جميع أنواع التصرف من بيع واستعمال في يابس ورطب وغير ذلك . وأما الآدمي فإذا قلنا بالصحيح : أنه لا ينجس بالموت فجلده طاهر لكن لا يجوز استعمال جلده ولا شيء من أجزائه بعد الموت لحرمته وكرامته ، اتفق أصحابنا على تحريمه وصرحوا بذلك في كتبهم منهم إمام الحرمين وخلائق ، قال الدارمي في الاستذكار : لا يختلف القول أن دباغ جلود بني آدم واستعمالها حرام ، ونقل الإمام الحافظ nindex.php?page=showalam&ids=13064أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم في كتابه كتاب الإجماع إجماع المسلمين على تحريم سلخ جلد الآدمي واستعماله وإن قلنا بالقول الضعيف : أن الآدمي ينجس بالموت فجلده نجس وهل يطهر بالدبغ ؟ فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين وابن الصباغ والغزالي وغيرهم الصحيح منهما أنه يطهر وهو اختيار المصنف والجمهور ، لأنهم قالوا : كل جلد نجس بالموت طهر بالدباغ ودليله عموم الحديث : { nindex.php?page=hadith&LINKID=8962أيما إهاب دبغ فقد طهر } ( والوجه الثاني ) لا يطهر بالدبغ لأن دباغه حرام لما فيه من الامتهان ، قال إمام الحرمين : وهذا فاسد لأن الدباغ لا يحرم لعينه وإنما المحرم حصول الامتهان على أي وجه حصل ، وأغرب الدارمي وابن الصباغ ، وذكرا وجها أنه لا يتأتى دباغه والله أعلم .
[ ص: 270 ] فرع في مذاهب العلماء في جلود الميتة هي سبعة مذاهب أحدها : لا يطهر بالدباغ شيء من جلود الميتة لما روي عن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب وابنه وعائشة رضي الله عنهم وهو أشهر الروايتين عن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد ورواية عن nindex.php?page=showalam&ids=0016867مالك . والمذهب الثاني : يطهر بالدباغ جلد مأكول اللحم دون غيره وهو مذهب الأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=16418وابن المبارك nindex.php?page=showalam&ids=11998وأبي داود nindex.php?page=showalam&ids=12418وإسحاق بن راهويه . والثالث : يطهر به كل جلود الميتة إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما وهو مذهبنا ، وحكوه عن nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود رضي الله عنهما والرابع : يطهر به الجميع إلا جلد الخنزير وهو مذهب nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة . والخامس : يطهر الجميع والكلب والخنزير إلا أنه يطهر ظاهره دون باطنه فيستعمل في اليابس دون الرطب ويصلى عليه لا فيه ، وهو مذهب nindex.php?page=showalam&ids=0016867مالك فيما حكاه أصحابنا عنه . والسادس : يطهر بالدباغ جميع جلود الميتة والكلب والخنزير ظاهرا وباطنا ، قال nindex.php?page=showalam&ids=15858داود وأهل الظاهر ، وحكاه الماوردي عن nindex.php?page=showalam&ids=14954أبي يوسف . والسابع : ينتفع بجلود الميتة بلا دباغ ويجوز استعمالها في الرطب واليابس حكوه عن الزهري . واحتج nindex.php?page=showalam&ids=12251لأحمد وموافقيه بأشياء منها قول الله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } وهو عام في الجلد وغيره وبحديث عبد الله بن عكيم قال : أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : قبل موته بشهر { nindex.php?page=hadith&LINKID=1741ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب } وهذا الحديث هو عمدتهم قالوا : ولأنه جزء من الميتة فلم يطهر بشيء كاللحم ، ولأن المعنى الذي نجس به هو الموت وهو ملازم له لا يزول بالدبغ فلا يتغير الحكم . واحتج أصحابنا بالحديثين السابقين : { nindex.php?page=hadith&LINKID=9923إذا دبغ الإهاب فقد طهر } { nindex.php?page=hadith&LINKID=8962وأيما إهاب دبغ فقد طهر } وهما صحيحان كما سبق بيانه ، وبحديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شاة ميمونة : هلا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به قالوا : يا رسول الله إنها ميتة قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=12485إنما حرم أكلها } رواه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم في [ ص: 271 ] صحيحيهما من طرق ، أما nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم فرواه في آخر كتاب الطهارة ، وأما nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري فرواه في مواضع من صحيحه منها كتاب الزكاة في الصدقة على موالي أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الصيد والذبائح وغيره . وإنما ذكرت هذا لأن بعض الأئمة والحفاظ جعله من أفراد nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم كأنه خفي عليه مواضعه من nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، واحتجوا أيضا بحديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : { nindex.php?page=hadith&LINKID=34869ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها ثم ما زلنا ننبذ فيه حتى صار شنا } رواه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، هكذا رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده بإسناد صحيح عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=34868ماتت شاة لسودة فقالت : يا رسول الله ماتت فلانة تعني الشاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا أخذتم مسكها ؟ فقالت : نأخذ مسك شاة قد ماتت } وذكر تمام الحديث كرواية nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري . وبحديث nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=1911أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت } حديث حسن رواه nindex.php?page=showalam&ids=0016867مالك في الموطأ وأبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15395والنسائي وآخرون بأسانيد حسنة . وأبو داود nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه في اللباس ، nindex.php?page=showalam&ids=15395والنسائي في الذبائح . وبحديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=810أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ من سقاء فقيل له : إنه ميتة فقال : دباغه يذهب بخبثه أو نجسه أو رجسه } رواه الحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين وقال : حديث صحيح ، ورواه nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي وقال : هذا إسناد صحيح . وبحديث جون ( بفتح الجيم ) ابن قتادة عن سلمة بن المحبق ( بالحاء المهملة وبفتح الباء الموحدة المشددة وكسرها ) رضي الله عنه { nindex.php?page=hadith&LINKID=6845أن نبي الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك دعا بماء من عند امرأة قالت : ما عندي إلا في قربة لي ميتة قال : أليس قد دبغتها ؟ قالت : بلى قال : فإن دباغها ذكاتها } رواه أبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15395والنسائي بإسناد صحيح ، إلا أن جونا اختلفوا فيه قال nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل : هو مجهول وقال nindex.php?page=showalam&ids=16604علي بن المديني : هو معروف . وفي المسألة أحاديث كثيرة وفيما ذكرنا كفاية ، ولأنه جلد طاهر طرأت عليه نجاسة فجاز أن يطهر كجلد المذكاة إذا تنجس . وأما الجواب عن احتجاجهم بالآية فهو أنها عامة خصتها السنة . وأما حديث عبد الله بن عكيم فرواه أبو داود والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15395والنسائي وغيرهم قال [ ص: 272 ] الترمذي : هو حديث حسن ، قال : وسمعت nindex.php?page=showalam&ids=12225أحمد بن الحسن يقول : كان nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل يذهب إلى حديث ابن عكيم هذا لقوله : " قبل وفاته بشهرين " وكان يقول : هذا آخر الأمر ، قال : ثم ترك nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده حيث روى بعضهم عن ابن عكيم عن أشياخ من جهينة . هذا كلام الترمذي . وقد روي هذا الحديث " قبل موته بشهر " وروي " بشهرين " وروي ( بأربعين يوما ) قال nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار وآخرون من الأئمة الحفاظ : هذا الحديث مرسل وابن عكيم ليس بصحابي ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي : مذهب عامة العلماء جواز الدباغ ووهنوا هذا الحديث لأن ابن عكيم لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو حكاية عن كتاب أتاهم ، وعللوه أيضا بأنه مضطرب ، وعن مشيخة مجهولين لم تثبت صحبتهم . إذا عرف هذا فالجواب عنه من خمسة أوجه ( أحدها ) ما قدمناه عن الحفاظ أنه حديث مرسل ( والثاني ) أنه مضطرب كما سبق وكما نقله الترمذي عن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد ولا يقدح في هذين الجوابين قول الترمذي : إنه حديث حسن ، لأنه قاله عن اجتهاده ، وقد بين هو وغيره وجه ضعفه كما سبق ( الثالث ) أنه كتاب ، وأخبارنا سماع وأصح إسنادا وأكثر رواة وسالمة من الاضطراب فهي أقوى وأولى ( الرابع ) أنه عام في النهي ، وأخبارنا مخصصة للنهي بما قبل الدباغ مصرحة بجواز الانتفاع بعد الدباغ ، والخاص مقدم .
( والخامس ) أن الإهاب الجلد قبل دباغه ولا يسمى إهابا بعده كما قدمناه عن nindex.php?page=showalam&ids=14248الخليل بن أحمد nindex.php?page=showalam&ids=15409والنضر بن شميل nindex.php?page=showalam&ids=11998وأبي داود السجستاني nindex.php?page=showalam&ids=14042والجوهري وغيرهم ، فلا تعارض بين الحديثين بل النهي لما قبل الدباغ تصريحا . فإن قالوا : خبرنا متأخر فقدم ، فالجواب من أوجه ( أحدها ) لا نسلم [ ص: 273 ] تأخره على أخبارنا لأنها مطلقة فيجوز أن يكون بعضها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بدون شهرين وشهر ( الثاني ) أنه روي قبل موته بشهر وروي شهرين وروي أربعين يوما كما سبق ، وكثير من الروايات ليس فيها تاريخ ، وكذا هو في روايتي أبي داود والترمذي وغيرهما . فحصل فيه نوع اضطراب فلم يبق فيه تاريخ يعتمد ( الثالث ) لو سلم تأخره لم يكن فيه دليل لأنه عام ، وأخبارنا خاصة ، والخاص مقدم على العام سواء تقدم أو تأخر كما هو معروف عن الجماهير من أهل أصول الفقه . وأما الجواب عن قياسهم على اللحم فمن وجهين ( أحدهما ) أنه قياس في مقابلة نصوص فلا يلتفت إليه ( والثاني ) أن الدباغ في اللحم لا يتأتى وليس فيه مصلحة له ، بل يمحقه بخلاف الجلد فإنه ينظفه ويطيبه ويصلبه ، وبهذين الجوابين يجاب عن قولهم : العلة في التنجيس الموت وهو قائم والله أعلم .
أراد رجلا لقيه في الحرب فانتظم جلده بسنان رمحه ، وأنشد nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي وغيره فيه أبياتا كثيرة منها قول nindex.php?page=showalam&ids=15871ذي الرمة :
لا يدخران من الإيغام باقية حتى تكاد تفرى عنهما الأهب
وعن nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة في وصفها أبيها رضي الله عنهما قالت : " وحقن الدماء في أهبها " تريد دماء الناس ، وهذا مشهور لا حاجة إلى الإطالة فيه ولأنه جلد حيوان طاهر فأشبه المأكول .
وأما الجواب عن حديثهم الأول فمن وجهين أحسنهما وأصحهما ولم يذكر nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي وآخرون غيره أن النهي عن افتراش جلود السباع إنما كان لكونها لا يزال عنها الشعر في العادة ، لأنها إنما تقصد للشعر كجلود الفهد والنمر . فإذا دبغت بقي الشعر نجسا فإنه لا يطهر بالدبغ على المذهب الصحيح ، فلهذا نهي عنها ( الثاني ) أن النهي محمول على ما قبل الدبغ ، كذا أجاب بعض أصحابنا وهو ضعيف ، إذ لا معنى لتخصيص السباع حينئذ بل كل الجلود في ذلك سواء وقد يجاب عن هذا الاعتراض بأنها خصت بالذكر لأنها كانت تستعمل قبل الدباغ غالبا أو كثيرا . والجواب عن حديث مسلمة أن المراد أن دباغ الأديم مطهر له ومبيح لاستعماله كالذكاة . وأما قياسهم على الكلب فجوابه أنه نجس في حياته فلا يزيد الدباغ على الحياة والله أعلم .
وأما nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة في قوله يطهر بالدبغ جلد الكلب ، nindex.php?page=showalam&ids=15858وداود في قوله والخنزير فاحتج لهما بعموم الأحاديث السابقة وبالقياس على الحمار وغيره ، واحتج أصحابنا بأحاديث لا دلالة فيها فتركتها لأني التزمت في خطبة الكتاب الإعراض عن الدلائل الواهية . واحتجوا بأن الحياة أقوى من الدباغ بدليل أنها سبب لطهارة الجملة ، والدباغ إنما يطهر [ ص: 275 ] الجلد ، فإذا كانت الحياة لا تطهر الكلب والخنزير فالدباغ أولى ، ولأن النجاسة إنما تزول بالمعالجة إذا كانت طارئة كثوب تنجس ، أما إذا كانت لازمة للعين فلا ، كالعذرة والروث فكذا الكلب . وأما احتجاجهم بالأحاديث فأجاب الأصحاب لأنها عامة مخصوصة بغير الكلب والخنزير لما ذكرناه ، وجواب آخر nindex.php?page=showalam&ids=11990لأبي حنيفة أنا اتفقنا نحن وأنتم على إخراج الخنزير من العموم ، والكلب في معناه ، وأما قياسهم على الحمار فالفرق أنه طاهر في الحياة فرده الدباغ إلى أصله والله أعلم .
وأما nindex.php?page=showalam&ids=0016867مالك ومن وافقه فاحتجوا في طهارة ظاهره دون باطنه بأن الدباغ إنما يؤثر في الظاهر ، واحتج أصحابنا بعموم الأحاديث الصحيحة السابقة كحديث : { nindex.php?page=hadith&LINKID=9923إذا دبغ الإهاب فقد طهر } وغيره فهي عامة في طهارة الظاهر والباطن . وبحديث سودة المتقدم قالت : { nindex.php?page=hadith&LINKID=34869ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها وهو جلدها فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شنا } حديث صحيح كما سبق وهو صريح في المسألة فإنه استعمل في مائع وهم لا يجيزونه ، وإن كانوا يجيزون شرب الماء منه ; لأن الماء لا ينجس عندهم إلا بالتغير ، قال أصحابنا : ولأن ما طهر ظاهره طهر باطنه كالذكاة . وأما الجواب عن قولهم : إنما يؤثر الدباغ في الظاهر . فمن وجهين ( أحدهما ) لا نسلم ، بل يؤثر في الباطن أيضا بانتزاع الفضلات وتنشيف رطوباته المعفنة كتأثيره في الظاهر ( والثاني ) أن ما ذكره مخالف للنصوص الصحيحة الصريحة فلا يلتفت إليه والله أعلم .
وأما الزهري فاحتج برواية جاءت في حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : { nindex.php?page=hadith&LINKID=38948هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به } ولم يذكر الدباغ ، واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة السابقة ، وأما هذه الرواية فمطلقة محمولة على الروايات الصحيحات المشهورات والله أعلم .
وذكر إمام الحرمين في النهاية مذاهب السلف بنحو ما سبق ثم قال : ولا يستند على هذا السبر غير مذهب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، فإن من قال يؤثر الدباغ [ ص: 276 ] في المأكول خاصة تعلقوا بخصوص السبب في شاة ميمونة . وليس ذلك بصحيح فإن اللفظ عام مستقل بالإفادة ، nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة لم يطرد مذهبه في الخنزير عملا بالعموم ولا يظهر فرق بين الكلب والخنزير . وأما nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي فإنه نظر إلى ما أمر به الشرع من استعمال الأشياء الجائزة كالقرظ ، وغاص على فهم المعنى وهو أن سبب نجاسة الجلود بالموت لأنها بانقطاع الحياة عنها تتعرض للبلى والعفن والنتن ، فإذا دبغت لم تتعرض للتغير ، وقد بطل حمل اللفظ على خصوص السبب وامتنع التعميم لما ذكرنا في جلد الخنزير ، وأرشد الدباغ إلى معنى يضاهي به المدبوغ الحيوان في حال الحياة فإن الحياة دافعة للعفن ، والموت جالب له ، والدباغ يرده إلى مضاهاة الحياة في السلامة من التغير ، فانتظم بذلك اعتبار المدبوغ بالحي فقال : كل ما كان في الحياة طاهرا عاد جلده بالدبغ طاهرا ، وما كان نجسا لا يطهر ، ثم ثبت عنده نجاسة الكلب من نجاسة لعابه والله أعلم .