قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإن تسلف الوالي الزكاة وهلك في يده نظرت ، فإن تسلف بغير مسألة ضمنها ; لأن الفقراء أهل رشد فلا يولى عليهم . فإذا قبض مالهم بغير إذنهم قبل محله ، وجب عليه الضمان . كالوكيل إذا قبض مال موكله قبل محله بغير إذنه . وإن تسلف بمسألة رب المال . فما تلف من ضمان رب المال ; لأنه وكيل رب المال . فكان الهلاك من ضمان الموكل . كما لو وكل رجلا في حمل شيء إلى مكان فهلك في يده . وإن تسلف بمسألة الفقراء فما هلك من ضمانهم ; لأنه قبض بإذنهم فصار كالوكيل إذا قبض دين موكله بإذنه فهلك في يده . وإن تسلف بمسألة الفقراء ورب المال ففيه وجهان : ( أحدهما ) أن ما يتلف من ضمان رب المال ; لأن جنبته أقوى ; لأنه يملك المنع والدفع .
( والثاني ) أنه من ضمان الفقراء ; لأن الضمان يجب على من له المنفعة ولهذا يجب ضمان العارية على المستعير . والمنفعة ههنا للفقراء فكان الضمان عليهم ) .
( الشرح ) قوله : أهل رشد - بضم الراء وإسكان الشين - ويجوز بفتحها ، ( وقوله ) : يولي عليهم هو - بإسكان الواو وتخفيف اللام - أي لا يثبت عليهم بغير إذنهم بخلاف الصبي والمجنون والسفيه ، ( وقوله ) : لأن جنبته هي - بفتح الجيم والنون .
( وأما الأحكام ) فاختصرها المصنف وهي مبسوطة في كتب الأصحاب ولخصها الرافعي ، ومختصر ما نقله أن الإمام إذا أخذ من المالك مالا [ ص: 129 ] للمساكين قبل تمام حوله فله حالان : ( أحدهما ) يأخذه بحكم القرض ، فينظر ، إن اقترض بسؤال المساكين - فهو من ضمانهم سواء تلف في يده أو بعد تسليمه إليهم - وهل يكون الإمام طريقا في الضمان حتى يؤخذ منه ويرجع هو على المساكين أم لا ؟ ينظر ، إن علم المقرض أنه يقترض للمساكين بإذنهم - لم يكن طريقا في أصح الوجهين وإن ظن المقرض أنه يقترض لنفسه أو للمساكين من غير سؤالهم فله الرجوع على الإمام ، ثم الإمام يأخذه من مال الصدقة أو يحبسه عن زكاة المقرض ، ولو أقرضه المالك للمساكين ابتداء من غير سؤالهم فتلف في يد الإمام بلا تفريط فلا ضمان على المساكين ولا على الإمام ; لأنه وكيل للمالك .
ولو اقترض الإمام بسؤال المالك والمساكين جميعا فهل هو من ضمان المالك أو المساكين ؟ فيه وجهان يأتي بيانهما في الحال الثاني إن شاء الله تعالى ، وإن اقترض بغير سؤال المالك والمساكين نظر إن اقترض ولا حاجة بهم إلى الاقتراض ، وقع القرض للإمام وعليه ضمانه من خالص ماله ، سواء تلف في يده أو دفعه إلى المساكين ، ثم إن دفع إليهم متبرعا فلا رجوع ، وإن أقرضهم فقد أقرضهم مال نفسه فله حكم سائر القروض . وإن كان اقترض لهم وبه حاجة وهلك في يده فوجهان : ( أحدهما ) أنه من ضمان المساكين يقضيه الإمام من مال الصدقة كالولي إذا اقترض اليتيم فهل المال في يده بلا تفريط يكون الضمان في مال اليتيم ؟ ( وأصحهما ) يكون الضمان من خالص مال الإمام ; لأن المساكين غير متعينين ، وفيهم أهل رشد أو أكثرهم أهل رشد لا ولاية عليهم ، ولهذا لا يجوز منع الصدقة عنهم بلا عذر ولا التصرف في مالهم بالتجارة ، وإنما يجوز الاقتراض لهم بشرط سلامة العاقبة بخلاف اليتيم . فأما إذا دفع المال الذي اقترضه إليهم فالضمان عليهم والإمام طريق ، فإذا أخذ الزكوات والمدفوع إليه بصفة الاستحقاق فله أن يقضيه من الزكوات ، وله أن يحسبه عن زكاة المقرض ، وإن لم يكن المدفوع إليه بصفة الاستحقاق عند تمام حول الزكوات ، لم يجز قضاؤه منها ، بل يقضي من مال نفسه ثم يرجع على المدفوع إليه إن وجد له مالا .
( الحال الثاني ) أن يأخذ الإمام المال ليحسبه عن زكاة المأخوذ منه عند تمام حوله ، وفيه أربع مسائل كالقرض : ( إحداها ) أن يأخذ [ ص: 130 ] بسؤال المساكين ، فإن دفع إليهم قبل الحول وتم الحول وهم بصفة الاستحقاق والمالك بصفة الوجوب ، وقع الموقع ، وإن خرجوا عن الاستحقاق فعليهم الضمان وعلى المالك الإخراج ثانيا ، وإن تلف في يده قبل تمام الحول بغير تفريط ، نظر إن خرج المالك عن صفة وجوب الزكاة عليه فله الضمان على المساكين وهل يكون الإمام طريقا ؟ فيه وجهان كما في الاقتراض ، وإن لم يخرج عن أن تجب عليه الزكاة فهل يقع المخرج عن زكاته ؟ فيه وجهان : ( أصحهما ) يقع ، وبه قطع ابن الصباغ والمتولي .
( والثاني ) لا يقع . فعلى هذا له تضمين المساكين . وفي تضمين الإمام وجهان ، فإن لم يكن للمساكين مال صرف الإمام إذا اجتمعت عنده الزكوات ذلك القدر إلى آخرين عن جهة الذي تسلف منه . ثم المذهب الصحيح الذي قطع به الجمهور أنه لا فرق بين أن يكون المساكين متعينين أم لا ، فالحكم في المسألة ما سبق . وحكى السرخسي وجهين : ( أحدهما ) هذا .
( والثاني ) أن صورة المسألة أن يكونوا متعينين . فإن لم يتعينوا فلا أثر لسؤالهم ويكون الحكم كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المسألة الرابعة إذا تسلف بغير مسألة أحد ; لأنه لا اعتبار بطلب غير المتعينين . وذكر السرخسي أيضا وجها في المتعينين أنه لا اعتبار بطلبهم ، بل يكون من ضمان الإمام ; لأنه لا يلزم من تعيينهم حال الطلب تعينهم حال الوجوب . وهذان الوجهان شاذان ضعيفان مردودان .
( والمسألة الثانية ) أن يتسلف بسؤال المالك ، فإن دفع إلى المساكين وتم الحول وهم بصفة الاستحقاق وقع الموقع ، وإلا رجع المالك على المساكين دون الإمام وإن تلف في يد الإمام لم يجزئ المال . سواء تلف بتفريط الإمام أم بغير تفريط كالتالف في يد الوكيل . ثم إن تلف بتفريط الإمام فعليه ضمانه للمالك وإن تلف بغير تفريط فلا ضمان عليه ولا على المساكين .
( الثالثة ) أن يتسلف بسؤال المالك والمساكين جميعا ( فالأصح ) عند صاحب الشامل والأكثرين أنه من ضمان المساكين .
( والثاني ) من ضمان المالك . [ ص: 131 ] الرابعة ) أن يتسلف بغير سؤال المالك والمساكين ; لما رأى من حاجتهم . فهل تكون حاجتهم كسؤالهم ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) لا يكون . فعلى هذا إن دفعه إليهم وخرجوا عن الاستحقاق قبل تمام الحول استرده الإمام منهم ودفعه إلى غيرهم . وإن خرج الدافع عن أهلية الوجوب استرده ورده إليه ، فإن لم يكن للمدفوع إليه مال ضمنه الإمام من مال نفسه فرط أم لم يفرط . وعلى المالك إخراج الزكاة ثانيا إن بقي من أهل الوجوب . وفي وجه ضعيف لا ضمان على الإمام . ثم الوجهان في تنزل الحاجة منزلة سؤالهم هما في حق البالغين . أما إذا كانوا غير بالغين فيبنى على أن الصبي هل تدفع إليه الزكاة من سهم الفقراء والمساكين أم لا ؟ فإن كان له من تلزمه نفقته كأبيه وغيره فوجهان : ( أصحهما ) لا تدفع إليه وإن لم يكن فالصحيح أنها تدفع له إلى قيمة .
( والثاني ) - لا ; لاستغنائه بسهمه من الغنيمة ، فإن جوزنا الصرف إليه فحاجة الأطفال كسؤال البالغين ، فتسلف الإمام الزكاة واستقراضه لهم كاستقراض قيم اليتيم . هذا إذا كان الذي يلي أمرهم الإمام ، فإن كان وليا مقدما على الإمام فحاجتهم كحاجة البالغين ; لأن لهم من يسأل التسلف لو كان مصلحة لهم . أما إذا قلنا : لا يجوز إلى الصبي فلا تجيء هذه المسألة في سهم الفقراء والمساكين ، وتجيء في سهم الغارمين ونحوه . واعلم أن في المسائل كلها لو تلف المعجل في يد الساعي أو الإمام بعد تمام الحول سقطت الزكاة عن المالك ; لأن الحصول في يدهما بعد الحول كالوصول إلى يد المساكين ، كما لو أخذها بعد الحول ، ثم إن فرط في الدفع إليهم ضمن من مال نفسه لهم وإلا فلا ضمان على أحد . وليس من التفريط انتظاره انضمام غيره إليه لقلته . فإنه لا يجب تفريق كل قليل يحصل عنده . قال أصحابنا : والمراد بالمساكين في هذه المسائل أهل السهمان جميعا ، وليس المراد جميع آحاد الصنف ، بل سؤال طائفة منهم أو حاجتهم . والله أعلم .