قال المصنف رحمه الله تعالى ( والمستحب لمن وجب عليه الحج بنفسه أو بغيره أن يقدمه لقوله تعالى { فاستبقوا الخيرات } ولأنه إذا أخره عرضه للفوات بحوادث الزمان ، ويجوز أن يؤخره من سنة إلى سنة ; لأن فريضة الحج نزلت سنة ست ، وأخر النبي صلى الله عليه وسلم الحج إلى سنة عشر من غير عذر ، فلو لم يجز التأخير لما أخره )
( الشرح ) : قوله : من غير عذر قد ينكر ، فيقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفتح مكة ولم يتمكن من الحج إلا في سنة ثمان ، وظاهر كلام المصنف أنه لم يحج من حين نزلت فريضة الحج ، وهذا اعتراض فاسد ; لأن مراد المصنف أن النبي صلى الله عليه وسلم تمكن سنة ثمان وسنة تسع وتمكن كثيرون من أصحابه ، ولم يحج ويحجوا إلا سنة عشر ، ولم يقل المصنف إنه تمكن من سنة ست . [ ص: 86 ] أما أحكام الفصل ففيه مسألتان ( إحداهما ) : المستحب لمن وجب عليه الحج بنفسه أو بغيره تعجيله ; لما ذكره المصنف ، ولحديث مهران بن صفوان عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { nindex.php?page=hadith&LINKID=35464من أراد الحج فليعجل } رواه أبو داود بإسناده عن مهران ، ومهران هذا مجهول ، قال ابن أبي حاتم : سئل أبو زرعة عنه فقال : لا أعرفه إلا من هذا الحديث . ( الثانية ) إذا وجدت شروط وجوب الحج وجب التراخي على ما نص عليه nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، واتفق عليه الأصحاب إلا nindex.php?page=showalam&ids=15215المزني ، فقال : هو على الفور فعلى المذهب يجوز تأخيره بعد سنة الإمكان ما لم يخش العضب ، فإن خشيه فوجهان : مشهوران في كتب الخراسانيين ، حكاهما إمام الحرمين والبغوي والمتولي وصاحب العدة وآخرون ، وقال الرافعي ( أصحهما ) : لا يجوز ; لأن الواجب الموسع لا يجوز تأخيره إلا بشرط أن يغلب على الظن السلامة إلى وقت فعله ، وهذا مفقود في مسألتنا ( والثاني ) : يجوز ; لأن أصل الحج على التراخي ، فلا يتغير بأمر محتمل ، قال المتولي : ويجري هذان الوجهان فيمن خاف أن يهلك ماله ، هل له تأخير الحج أم لا ؟ والله أعلم .
( فرع ) : في مذاهب العلماء في كون الحج على الفور أو التراخي . قد ذكرنا أن مذهبنا أنه على التراخي ، وبه قال الأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري nindex.php?page=showalam&ids=16908ومحمد بن الحسن ، ونقله الماوردي عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=9وأنس nindex.php?page=showalam&ids=36وجابر nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس رضي الله عنهم وقال nindex.php?page=showalam&ids=0016867مالك nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبو يوسف : هو على الفور ، وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=15215المزني كما سبق ، وهو قول جمهور أصحاب nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، ولا نص nindex.php?page=showalam&ids=11990لأبي حنيفة في ذلك . واحتج لهم بقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } وهذا أمر ، والأمر يقتضي الفور ، وبحديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس السابق في هذا الفصل : { nindex.php?page=hadith&LINKID=35466من [ ص: 87 ] أراد الحج فليعجل } وبالحديث الآخر السابق : { nindex.php?page=hadith&LINKID=37359من لم يمنعه من الحج حاجة أو مرض حابس ، أو سلطان جائر ، فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا } ; ولأنها عبادة تجب الكفارة بإفسادها ، فوجبت على الفور كالصوم ; ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة كالجهاد ، قالوا : ولأنه إذا لزمه الحج وأخره إما أن تقولوا يموت عاصيا ، وإما غير عاص ( فإن قلتم : ) ليس بعاص خرج الحج عن كونه واجبا وإن ( قلتم : ) عاص ، فأما أن تقولوا عصا بالموت أو بالتأخير ، ولا يجوز أن يعصي بالموت ; إذ لا صنع له فيه ، فثبت أنه بالتأخير ، فدل على وجوبه على الفور . واحتج nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي والأصحاب بأن فريضة الحج نزلت بعد الهجرة ، وفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في رمضان سنة ثمان ، وانصرف عنها في شوال من سنته واستخلف عتاب بن أسيد ، فأقام الناس الحج سنة ثمان بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما بالمدينة هو وأزواجه وعامة أصحابه ، ثم غزا غزوة تبوك في سنة تسع ، وانصرف عنها قبل الحج . فبعث أبا بكر رضي الله عنه فأقام الناس الحج سنة تسع ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وعامة أصحابه قادرين على الحج غير مشتغلين بقتال ولا غيره ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم بأزواجه وأصحابه كلهم سنة عشر ، فدل على جواز تأخيره ، هذا دليل nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وجمهور الأصحاب .
واحتج أصحابنا أيضا بأنه إذا أخره من سنة إلى سنة أو أكثر ، وفعله يسمى مؤديا للحج لا قاضيا بإجماع المسلمين ، هكذا نقل الإجماع فيه nindex.php?page=showalam&ids=11872القاضي أبو الطيب وغيره ، ونقل الاتفاق عليه أيضا القاضي nindex.php?page=showalam&ids=14958حسين وآخرون ولو حرم التأخير لكان قضاء لا أداء ( فإن قالوا ) هذا ينتقض بالوضوء ، فإنه إذا أخره حتى خرج وقت الصلاة ، ثم فعله كان أداء ، مع أنه يأثم بذلك ( قلنا : ) قد منع القاضي nindex.php?page=showalam&ids=11872أبو الطيب كونه أداء في هذه الحالة . وقال : بل ، هو قضاء لبقاء الصلاة ; لأنه مقصود لها لا لنفسه وجواب آخر وهو أن الوضوء ليس له وقت محدود ، فلا يوصف بالقضاء بخلاف الحج ، وقد تقرر في الاصطلاح أن القضاء فعل العبادة خارج وقتها المحدود . [ ص: 90 ] واحتج أصحابنا أيضا بأنه إذا تمكن من الحج وأخره ، ثم فعله لا ترد شهادته فيما بين تأخيره وفعله بالاتفاق ، ولو حرم لردت لارتكابه المسيء ، قال إمام الحرمين في الأساليب : أسلوب الكلام في المسألة أن تقول : العبادة الواجبة ثلاثة أقسام : ( أحدها ) : ما يجب لدفع حاجة المساكين العاجزة وهو الزكاة ، فيجب على الفور ، لأن المعنى من مقصود الشرع بها .
( والثاني ) : ما تعلق بغير مصلحة المكلف ، وتعلق بأوقات شريفة كالصلاة وصوم رمضان ، فيتعين فعلها في الأوقات المشروعة لها ; لأن المقصود فعلها في تلك الأوقات .
( والثالث ) : عبادة تستغرق العمر وتبسط عليه حقيقة وحكما وهو الإيمان فيجب التدارك إليه ليثبت وجوب استغراق العمر به .
( والرابع ) : عبادة لا تتعلق بوقت ولا حاجة ولم تشرع مستغرقة للعمر ، وكانت مرة واحدة في العمر ، وهي الحج ، فحمل أمر الشرع بها للامتثال المطلق ، والمطلوب تحصيل الحج في الجملة ولهذا إذا فاتت الصلاة كان قضاؤها على التراخي لعدم الوقت المختص ، وكذا القياس في صوم رمضان إذا فات لا يختص قضاؤه بزمان ، ولكن تثبت آثار اقتضت غايته بمدة السنة ، هذا كله إذا قلنا إنه يقتضي الفور ، ولنا طريق آخر ، وهو أن المختار أن الأمر - مجردا عن القرائن - لا يقتضي الفور ، وإنما المقصود منه الامتثال المجرد ، ومن زعم أنه يقتضي الفور نقلنا الكلام إلى أصول الفقه ، ويمكن أن يقال : الحج عبادة لا تنال إلا بشق الأنفس ولا يتأتى الإقدام عليها بعينها بل يقتضي للتشاغل بأسبابها والنظر في الرفاق والطرق ، وهذا مع بعد المسافة يقتضي مهلة فسيحة لا يمكن ضبطها بوقت ، وهذا هو الحكمة في إضافة الحج إلى العمر ، ويمكن أن يجعل هذا قرينة في اقتضاء الأمر بالحج للتراخي فنقول : الأمر بالحج إما أن يكون مطلقا ، والأمر المطلق لا يقتضي الفور وإما أن يكون معه ما يقتضي التراخي كما ذكرناه ، هذا كلام إمام الحرمين رحمه الله . [ ص: 91 ] وأما ) الجواب عن احتجاج الحنفية بالآية الكريمة وأن الأمر يقتضي الفور ، فمن وجهين ( أحدهما ) : أكثر أصحابنا قالوا : إن الأمر المطلق المجرد عن القرائن لا يقتضي الفور ، بل هو على التراخي ، وقد سبق تقريره في كلام إمام الحرمين ، وهذا الذي ذكرته من أن أكثر أصحابنا عليه هو المعروف في كتبهم في الأصول ، ونقله nindex.php?page=showalam&ids=11872القاضي أبو الطيب في تعليقه في هذه المسألة عن أكثر أصحابنا ( والثاني ) : أنه يقتضي الفور ، وهنا قرينة ودليل يصرفه إلى التراخي ، وهو ما قدمناه من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه مع ما ذكره إمام الحرمين من القرينة المذكورة في آخر كلامه .
( وأما ) الحديث : { nindex.php?page=hadith&LINKID=35466من أراد الحج فليعجل } ( فجوابه ) من أوجه ( أحدها ) : أنه ضعيف ( والثاني ) : أنه حجة لنا ، لأنه فوض فعله إلى إرادته واختياره ولو كان على الفور لم يفوض تعجيله إلى اختياره ( والثالث ) : أنه أمر ندب جمعا بين الأدلة ( وأما ) الجواب عن حديث { nindex.php?page=hadith&LINKID=24813فليمت إن شاء يهوديا } فمن أوجه ( أحدها ) أنه ضعيف كما سبق ( والثاني ) : أن الذم لمن أخره إلى الموت ، ونحن نوافق على تحريم تأخيره إلى الموت ، والذي نقول بجوازه هو التأخير بحيث يفعل قبل الموت ( الثالث ) : أنه محمول على من تركه معتقدا عدم وجوبه مع الاستطاعة ، فهذا كافر ، ويؤيد هذا التأويل أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=24813فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا } وظاهره أنه يموت كافرا ، ولا يكون ذلك إلا إذا اعتقد عدم وجوبه مع الاستطاعة وإلا فقد أجمعت الأمة على أن من تمكن من الحج فلم يحج ومات لا يحكم بكفره ، بل هو عاص ، موجب تأويل الحديث لو صح والله أعلم .
( والجواب ) عن قياسهم على الصوم أن وقته مضيق فكان فعله مضيقا بخلاف الحج .
( والجواب ) عن قياسهم على الجهاد من وجهين ( أحدهما ) : جواب القاضي nindex.php?page=showalam&ids=11872أبي الطيب وغيره : لا نسلم وجوبه على الفور بل هو موكول إلى [ ص: 92 ] رأي الإمام بحسب المصلحة في الفور والتراخي ( والثاني ) : أن في تأخير الجهاد ضررا على المسلمين بخلاف الحج .
( والجواب ) عن قولهم : إذا أخره ومات هل يموت عاصيا أن الصحيح عندنا موته عاصيا ، قال أصحابنا : وإنما عصى لتفريطه بالتأخير إلى الموت ، وإنما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة كما إذا ضرب ولده أو زوجته ، أو المعلم الصبي ، أو عزر السلطان إنسانا فمات ، فإنه يجب الضمان ; لأنه مشروط بسلامة العاقبة ، والله أعلم .