قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن أحرم فأحصره العدو - نظرت فإن كان من المسلمين - فالأولى أن يتحلل ولا يقاتله لأن التحلل أولى من قتال المسلمين ، وإن كان من المشركين لم يجب عليه القتال ، لأن قتال الكفار لا يجب إلا إذا بدءوا بالحرب ، فإن كان في المسلمين ضعف وفي العدو قوة فالأولى ألا يقاتلهم ، لأنه ربما انهزم المسلمون فيلحقهم وهن ، وإن كان في المسلمين قوة وفي المشركين ضعف فالأفضل أن يقاتلهم ليجمع بين نصرة الإسلام وإتمام الحج فإن طلبوا مالا لم يجب إعطاء المال لأن ذلك ظلم ولا يجب الحج مع احتمال الظلم ، فإن كانوا مشركين كره أن يدفع إليهم لأن في ذلك صغارا على الإسلام فلا يجب احتماله من غير ضرورة وإن كانوا مسلمين لم يكره ) .
( الشرح ) قال أهل اللغة : يقال أحصره المرض وحصره العدو ، وقيل حصر وأحصر فيهما والأول أشهر . وأصل الحصر المنع . قال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي [ ص: 284 ] والأصحاب : إذا أحصر العدو المحرمين عن المضي في الحج من جميع الطرق [ ص: 285 ] فلهم التحلل ، سواء كان الوقت واسعا أم لا ، وسواء كان العدو مسلمين [ ص: 286 ] أو كفارا ، لكن إن كان الوقت واسعا فالأفضل تأخير التحلل فلعله يزول المنع ويتم الحج ، وإن كان الوقت ضيقا فالأفضل تعجيل التحلل خوفا من فوات الحج . ويجوز للمحرم بالعمرة التحلل عند الإحصار بلا خلاف ، ودليل التحلل وإحصار العدو نص القرآن والأحاديث الصحيحة المشهورة في تحلل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية وكانوا محرمين بعمرة وإجماع المسلمين على ذلك . وأما إذا منعوا وطلب منهم مال ولم يمكنهم المضي إلا ببذل مال فلهم التحلل ولا يلزمهم بذله بلا خلاف ، سواء قل المطلوب أم كثر ، فإن كان الطالب كفارا قالnindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي والأصحاب : كره ذلك ولا يحرم ، قال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : كما لا تحرم الهبة للكفار ، وإن كانوا مسلمين لم يكره لما ذكره المصنف . وأما إذا احتاج الحجيج إلى قتال العدو ليسيروا فينظر - إن كان المانعون مسلمين - جاز لهم التحلل ، وهو أولى من قتالهم لتعظيم دماء المسلمين ، فإن قاتلوه جاز لأنهم صائلون ، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { nindex.php?page=hadith&LINKID=36997من قتل دون ماله فهو شهيد } " وفي حديث صحيح { nindex.php?page=hadith&LINKID=42947ومن قتل دون دينه فهو شهيد } . وإن كان العدو كفارا فوجهان ( أحدهما ) وهو مشهور في كتب الخراسانيين أنه إن كان العدو أكثر من مثلي عدد المسلمين لم يجب قتالهم ، وإلا وجب . قال إمام الحرمين : هذا الإطلاق ليس بمرض ، بل شرطه [ ص: 287 ] وجدانهم السلاح وأهبة القتال قال : فإن وجدوا ذلك فلا سبيل إلى التحلل .
( والوجه الثاني ) وهو الصحيح ، وبه قطع المصنف وسائر العراقيين وآخرون من غيرهم ، ونقله الرافعي عن أكثر الأصحاب أنه لا يجب القتال ، سواء كان عدد الكفار مثلي المسلمين أو أقل ، لكن إن كان بالمسلمين قوة فالأفضل أن لا يتحللوا بل يقاتلوهم ليجمعوا بين الجهاد ونصرة الإسلام والحج ، وإلا فالأفضل التحلل لما ذكره المصنف . قال أصحابنا : وحيث ، قاتلوا المسلمين أو الكفار فلهم لبس الدروع والمغافر وعليهم الفدية ، كمن لبس لحر أو برد . وهذا الذي ذكرناه من جواز التحلل بلا خلاف هو فيما إذا منعوا المضي دون الرجوع ، فأما إذا أحاط بهم العدو من الجوانب كلها فوجهان مشهوران ، حكاهما البندنيجي والماوردي وإمام الحرمين والبغوي والمتولي وغيرهم . وقيل هما قولان ( أصحهما ) جواز التحلل لعموم قوله تعالى { فإن أحصرتم } ( والثاني ) لا ، إذ لا يحصل به أمن ، والله أعلم .
( فرع ) هذا الذي ذكرناه هو فيما إذا صدوهم ولم يجدوا طريقا آخر ، فأما إن وجدوا طريقا غيره لا ضرر في سلوكها - فإن كانت مثل طريقهم التي صدوا عنها - لم يكن لهم التحلل لأنهم قادرون على الوصول ، فإن كان أطول من طريقهم قال صاحب الفروع والروياني وصاحب البيان وغيرهم : إن لم يكن معهم نفقة تكفيهم لذلك الطريق فلهم التحلل ، وإن كان معهم نفقة تكفيهم لطريقهم الآخر لم يجز لهم التحلل ولزمهم سلوك الطريق الآخر ، سواء علموا أنهم بسلوك هذا الطريق يفوتهم الحج أم لا ، لأن سبب التحلل هو الحصر لا خوف الفوات ، ولهذا لو أحرم بالحج يوم عرفة وهو بالشام لم يجز له التحلل بسبب الفوات . قال أصحابنا : حتى لو أحصر بالشام في ذي الحجة ووجد طريقا آخر كما ذكرنا لزمه السير [ ص: 288 ] فيه ووصول الكعبة والتحلل بعمل عمرة . قال أصحابنا : فإذا سلك هذا الطريق كما أمرناه ففاته الحج بطول الطريق الثاني أو خشونته أو غيرهما مما يحصل الفوات بسببه فقولان مشهوران ، ذكرهما المصنف في الفصل الآتي والأصحاب ( أصحهما ) لا يلزمه القضاء بل يتحلل تحلل المحصر لأنه محصر ، ولعدم تقصيره .
( والثاني ) يلزمه القضاء كما لو سلكه ابتداء ففاته بضلال في الطريق ونحوه ولو استوى الطريقان من كل وجه وجب القضاء بلا خلاف ، لأنه فوات محض ولو أحصر ولم يجد طريقا آخر إلا في البحر ، قال أصحابنا : ينبني على وجوب ركوب البحر للحج ، وقد سبق بيان الخلاف فيه وتفصيله في أوائل كتاب الحج فحيث قلنا : يجب ركوبه يكون كقدرته على طريق أمن في البر وإلا فلا والله أعلم .
ولو أحصر فصابر الإحرام متوقعا زواله ففاته الحج ، والإحصار دائم ، تحلل بأعمال العمرة ، وفي القضاء طريقان ( أصحهما ) طرد القولين فيمن فاته بطول الطريق الثاني ( والطريق الثاني ) القطع بوجوب القضاء لأنه تسبب بالمصابرة في الفوات والله أعلم
( فرع ) قال أصحابنا : إذا لم يتحلل بالإحصار حتى فاته الحج ، فحيث قلنا : لا قضاء عليه ، يتحلل وعليه دم الإحصار دون دم الفوات ، وحيث أوجبنا القضاء فإن كان قد زال العدو وأمكنه وصول الكعبة لزمه قصدها ، والتحلل بعمل عمرة وعليه دم الفوات دون دم الإحصار ، وإن كان العدو باقيا فله التحلل وعليه دمان ، دم الفوات ودم الإحصار ، والله أعلم .
( فرع ) قال أصحابنا : إذا تحلل الحاج فإن لم يزل الإحصار فله الرجوع إلى وطنه ، وإن انصرف العدو - فإن كان الوقت واسعا بحيث يمكنه تجديد الإحرام وإدراك الحج ، فإن كان حجه تطوعا فلا شيء عليه ، وإن كان حجه تقدم وجوبها بقي وجوبها كما كان ، والأولى أن يجدد الإحرام بها في هذه السنة وله التأخير وإن كانت حجة وجبت في هذه السنة [ ص: 289 ] بأن استطاع في هذه السنة دون ما قبلها فقد استقر الوجوب في ذمته لتمكنه ، والأولى أن يحرم بها في هذه السنة وله التأخير لأن الحج عندنا على التراخي ، وإن كان الوقت ضيقا بحيث لا يمكنه إدراك الحج سقط عنه الوجوب في هذه السنة ، فإن استطاع بعده لزمه ، وإلا فلا . إلا أن يكون سبق وجوبها قبل هذه السنة واستقرت ، والله أعلم .
( فرع ) اعترض أبو سعيد بن أبي عصرون على المصنف في قوله لأن قتال الكفار لا يجب إلا إذا بدءوا بالحرب ، وقال : هذا سهو منه ، بل قتال الكفار لا يتوقف على الابتداء ، وهذا الاعتراض غلط من قائله ، بل الذي قاله المصنف هو عبارة الأصحاب في الطريقتين ، لكن زاد القاضي nindex.php?page=showalam&ids=11872أبو الطيب والجمهور فيها لفظة فقالوا : لأن قتال الكفار لا يجب إلا إذا بدءوا به أو استنفر الإمام والثغور الناس لقتالهم ، فهذه عبارة الأصحاب ، ومرادهم لا يجب على آحاد الرعية والطائفة منهم ، وأما الإمام فيلزمه الغزو بالناس بنفسه أو بسراياه كل سنة مرة إلا أن تدعو حاجة إلى تأخيره ، كما هو مقرر في كتاب السير والله أعلم .