( الشرح ) قوله تعالى : ( إلا أن تكون تجارة ) هو استثناء منقطع ، أي لكن لكم أكلها بتجارة عن تراض منكم ، قال العلماء : خص الله سبحانه وتعالى الأكل بالنهي تنبيها على غيره ، لكونه معظم المقصود من المال ، كما قال تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } وقوله تعالى : { الذين يأكلون الربا } وأجمعت الأمة على أن التصرف في المال بالباطل حرام سواء كان أكلا أو بيعا أو هبة أو غير ذلك ، وقوله تعالى ( بالباطل ) قال nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وغيره : " إلا بحقها " قال أهل المعاني : الباطل اسم جامع لكل ما لا يحل في الشرع كالربا والغصب والسرقة والخيانة وكل محرم ورد الشرع به ، قال الواحدي : أجمعوا على أن هذا الاستثناء منقطع ، وقوله تعالى { إلا أن تكون تجارة } فيها قراءتان : الرفع والنصب ، فمن رفع جعل ( كان ) تامة ، إلا أن تقع تجارة ، ومن نصب قال : تقديره : إلا أن يكون المأكول تجارة أو إلا أن تكون الأموال أموال تجارة فحذف المضاف ، قال الواحدي : والأجود الرفع ، لأنه أدل على انقطاع الاستثناء ولأنه لا يحتاج إلى إضمار .
وأما صاحب الحاوي فبسط تفسير الآية في الحاوي فقال : قوله تعالى : ( أموالكم ) فيه تأويلان : ( أحدهما ) المراد مال كل إنسان في نفسه ، [ ص: 170 ] أي لا يصرفه في المحرمات ( والثاني ) معناه لا يأخذ بعضكم مال بعض كما قال تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } ( وقوله ) بالباطل ، قيل : معناه الصرف في المحرمات ، وقيل : النهب والغارات ، ( والثالث ) التجارات الفاسدة ونحوها ، والمختار ما قدمنا عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وأهل المعاني ، والله تعالى أعلم . وأما قوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } فقد ذكر nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رحمه الله - في كتاب الأم تفسيرها مستوفى مع اختصار ، وشرحه صاحب الحاوي فقال : قال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : ومعنى الآية أربعة أقوال : ( أحدها ) أنها عامة فإن لفظها لفظ عموم يتناول كل بيع ، ويقتضي إباحة جميعها إلا ما خصه الدليل ، وهذا القول أصحها عند nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأصحابنا . قال في الأم : هذا أظهر معاني الآية . قال صاحب الحاوي والدليل لهذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيوع كانوا يعتادونها ولم يبين الجائز ، فدل على أن الآية الكريمة تناولت إباحة جميع البيوع إلا ما خص منها ، وبين صلى الله عليه وسلم المخصوص ، قال : فعلى هذا في العموم قولان ( أحدهما ) إنه عموم أريد به العموم ، وإن دخله التخصيص ( والثاني ) إنه عموم أريد به الخصوص ، قال : والفرق بينهما من وجهين ( أحدهما ) أن العموم المطلق الذي يراد به العموم ، وهو ما يجري على عمومه ، وإن دخله تخصيص كان الخارج منه بالتخصيص أقل مما بقي على العموم .
( والوجه الثاني ) أن البيان فيما أريد به الخصوص مقدم على اللفظ ، وفيما أريد به العموم متأخر عن اللفظ أو مقترن به ، قال : وعلى القولين جميعا يجوز الاستدلال بهذه الآية الكريمة في المسائل المختلف فيها . ما لم يقم دليل تخصيص ، وإخراجها من العموم .
[ ص: 171 ] والقول الثاني ) من الأقوال الأربعة : إنها مجملة لا يعقل منها صحة بيع من فساده إلا ببيان النبي صلى الله عليه وسلم ودليله أن في البياعات الجائز وغيره ، وبين في الآية ما يميز هذا من ذاك ، فاقتضت كونها مجملة ، فعلى هذا هل هي مجملة بنفسها ؟ أم بعارض ؟ فيه وجهان لأصحابنا ( أحدهما ) أنها مجملة بنفسها ، لأن قوله تعالى { وأحل الله البيع } يقتضي جواز البيع متفاضلا ، وقوله تعالى { وحرم الربا } يقتضي تحريم بيع الربوي متفاضلا فصار آخرها معارضا لأولها ، فحصل الإجمال فيها بنفسها ( والثاني ) أنها مجملة بغيرها ، لأنها جواز كل بيع من غرر ومعدوم وغيرهما وقد وردت السنة بالنهي عن بيع الغرر وبيع الملامسة وغيرهما فوقع الإجمال فيها بغيرها ، قال : ثم اختلف أصحابنا في الإجمال على وجهين ( أحدهما ) أن الإجمال وقع في المعنى المراد به دون صيغة لفظها ، لأن لفظ البيع اسم لغوي ولم يرد من طريق الشرع ، ومعناه معقول ، لكن لما قام بإزائه من الشبه ما يعارضه ، تدافع العمومان وحدهما ولم يتعين المراد منهما إلا ببيان الشبه ، فصارا مجملين لهذا المعنى ، لأن هذا اللفظ مشكل المعنى .
( والثاني ) أن اللفظ محتمل ، والمعنى المراد منه مشكل ، لأنه لما لم يكن المراد من اللفظ ما وقع عليه الاسم تبينا أن له شرائط لم تكن معقولة في اللغة ، خرج اللفظ بالشرائط عن موضوعه في اللغة إلى ما استقرت عليه شرائط الشرع ، وإن كان له في اللغة معان معقولة كما قلنا في الصلاة إنها مجملة لأنها متضمنة شرائط لم تكن معقولة في اللغة كالخضوع ، فكذلك البيع ، قال الماوردي : وعلى الوجهين لا يجوز الاستدلال بها على صحة بيع ولا فساده ، وإن دلت على صحة البيع من أصله قال . وهذا هو الفرق بين العموم والمجمل حيث جاز الاستدلال بظاهر العموم ، ولم يجز الاستدلال بظاهر المجمل ، والله أعلم .
[ ص: 172 ] والقول الثالث ) من الأربعة يتناولهما جميعا فيكون عموما دخله التخصيص ، ومجملا لحقه التفسير ، لقيام الدلالة عليها ، قال الماوردي واختلف أصحابنا في وجه دخول ذلك فيهما على ثلاثة أوجه ( أحدها ) أن العموم في اللفظ والإجمال في المعنى ، فيكون اللفظ عاما مخصوصا ، والمعنى مجملا لحقه التفسير ( والثاني ) أن العموم في قوله تعالى { وأحل الله البيع } والإجمال في قوله { : وحرم الربا } ( والثالث ) أنه كان مجملا ، فلما بينه النبي صلى الله عليه وسلم صار عاما ، فيكون داخلا في المجمل قبل البيان ، وفي العموم بعد البيان ، قال : فعلى هذا الوجه يجوز الاستدلال بظاهرها في البيوع المختلف فيها كالقول الثاني .
( والقول الرابع ) إنها تناولت بيعا معهودا ، ونزلت بعد أن أحل النبي صلى الله عليه وسلم بيوعا وحرم بيوعا ، فقوله تعالى : ( وأحل الله البيع ) أي البيع الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم من قبل ، وعرفه المسلمون منه ، فتناولت الآية بيعا معهودا ، ولهذا دخلت الألف واللام لأنهما للعهد أو للجنس ، ولا يكون الجنس هنا مرادا لخروج بعضه عن التحليل ، فعلم أن المراد العهد ، فعلى هذا لا يجوز الاستدلال بظاهرها على صحة بيع ولا فساده ، بل يرجع فيما اختلف فيه إلى الاستدلال بما تقدمها من السنة التي عرف بها البيوع الصحيحة ، فيحصل الفرق بينها وبين المجمل من وجه ، وبينها وبين العموم من وجهين .
( فأما ) الوجه الواحد فهو أن بيان النبي صلى الله عليه وسلم للبيوع كان قبل نزولها ، وبيان المجمل يكون مقترنا للفظ ، أو متأخرا عنه على مذهب من يجوز تأخير البيان ، وأما الوجهان ( فأحدهما ) ما سبق من تقديم البيان في المعهود ، وإقرار بيان التخصيص بالعموم ( والثاني ) جواز الاستدلال بظاهر العموم دون ظاهر المعهود ، هذا آخر كلام الماوردي ، وذكر أصحابنا نحوه ، واتفقوا على نقل هذه الأقوال الأربعة عن nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، [ ص: 173 ] واتفقوا على أن أصحها عند nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أن الآية عامة تتناول كل بيع إلا ما نهى الشرع عنه ، والله أعلم ( فرع ) أما الحكم الذي ذكره المصنف وهو جواز البيع ، فهو مما تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، وأجمعت الأمة على أن المبيع بيعا صحيحا يصير بعد انقضاء الخيار ملكا للمشتري ، قال الغزالي في أول بيوع الوسيط : أجمعت الأمة على أن البيع سبب لإفادة الملك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
( فرع ) قال أصحابنا : وإذا انعقد البيع لم يتطرق إليه الفسخ إلا بأحد سبعة أسباب ، وهي خيار المجلس ، وخيار الشرط ، وخيار العيب ، وخيار الخلف ، بأن كان شرطه كاتبا فخرج غير كاتب ، والإقالة ، والتخالف ، وتلف المبيع ، وأما خيار الرؤية ففي بيع الغائب إذا جوزناه فهو ملتحق في المعنى بخيار الشرط ، والله تعالى أعلم .
( فرع ) قال nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة وغيره : يقال : بعت الشيء بمعنى بعته وبمعنى شريته ، ويقال شريت الشيء بمعنى شريته وبعته ، وأكثر الاستعمال : بعته إذا أزلت الملك فيه بالمعاوضة ، واشتريته إذا تملكته بها ، قال الأزهري : العرب تقول : بعت بمعنى بعت ما كنت ملكته ، وبعت بمعنى اشتريت ، قال : وكذلك شريت بالمعنيين ، قال : وكل واحد مبيع وبائع ، لأن الثمن والمثمن كل منهما مبيع ، ويقال : بعته أبيعه فهو مبيع ومبيوع ، مخيط ومخيوط ، قال nindex.php?page=showalam&ids=14248الخليل : والمحذوف من مبيع واو مفعول ، لأنها زائدة ، فهي أولى بالحذف ، وقال الأخفش : المحذوف عين الكلمة ، قال المازني : كلاهما حسن ، وقول الأخفش أقيس ، والابتياع الاشتراء ، وبايعته وتبايعنا واستبعته سألته أن يبيعني ، وأبعت الشيء عرضته للبيع ، وبيع الشيء - بكسر الباء وضمها - والكسر أفصح وبوع - بضم الباء وبالواو - لغة فيه ، وكذلك القول في : كيل وقيل . [ ص: 174 ] وأما الشراء ففيه لغتان مشهورتان ( أفصحهما ) المد ( والثانية ) القصر فمن مد كتبه بالألف وإلا فبالياء ، وجمعه أشرية وهو جمع نادر ، ويقال شريت الشيء أشريه شريا إذا بعته ، وإذا اشتريته كما سبق ، فهو من الأضداد على اصطلاح اللغويين ، ومن المشترك على اصطلاح الأصوليين ، قول الله تعالى { ومن الناس من يشري نفسه } وقال تعالى : { وشروه بثمن بخس } وأما حقيقة البيع في اللغة فهو مقابلة المال بالمال ، وفي الشرع مقابلة المال بمال أو نحوه تمليكا .
( فرع ) أركان البيع ثلاثة العاقدان والصيغة والمعقود عليه ، وشرط العاقد أن يكون بالغا عاقلا مختارا بصيرا ، غير محجور عليه ويشترط إسلام المشتري إن كان المبيع عبدا مسلما ، أو مصحفا ، وعصمته إن كان المبيع سلاحا .
وشروط المبيع خمسة ، أن يكون طاهرا منتفعا به معلوما مقدورا على تسليمه مملوكا لمن يقع العقد له ، ويدخل في الضابط أم الولد والمرهون والموقوف والمكلف والجاني - إذا منعنا بيعهما - والمنذور إعتاقه ، وهذا الحد ناقص ، لأنه يرد عليه المجهول والمعجوز عن تسليمه وغير المملوك ، فالصواب الحد والأول هذه الشروط ستأتي مفصلة إن شاء الله تعالى في مواضعها .
( فرع ) سبق في آخر باب الأطعمة الخلاف في أن أطيب المكاسب التجارة ؟ أم الزراعة ؟ أم الصنعة ؟
وعن عطية بن عروة السعدي الصحابي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=31221لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس } رواه الترمذي وقال : هو حديث حسن ، قال nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : وقال حسان بن أبي سنان : " ما رأيت شيئا أهون من الورع ، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " وحسان هذا من تابعي التابعين روى عن nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري ( فصل ) عن nindex.php?page=showalam&ids=187أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=527أجملوا في طلب الدنيا فإن كلا ميسر لما كتب له منها } رواه nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي بإسناد صحيح ، ورواه nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه بإسناد ضعيف .
( فصل ) عن nindex.php?page=showalam&ids=137حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=13872البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما } رواه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم .
( فصل ) سبق في مقدمة هذا الشرح أن من أراد التجارة لزمه أن يتعلم أحكامها فيتعلم شروطها ، وصحيح العقود من فاسدها ، وسائر أحكامها ، وبالله التوفيق .
( فصل ) مذهبنا أن الإشهاد على عقد البيع والإجارة وسائر العقود غير النكاح والرجعة مستحب ، وليس بواجب ، وقد صرح المصنف بهذا اللفظ بحروفه في أول كتاب الشهادات ، واستدل المصنف وغيره للاستحباب بقوله تعالى : ( { وأشهدوا إذا تبايعتم } ) هذا مذهبنا ، قال nindex.php?page=showalam&ids=12918ابن المنذر وبه قال nindex.php?page=showalam&ids=50أبو أيوب الأنصاري nindex.php?page=showalam&ids=44وأبو سعيد الخدري والشعبي والحسن وأصحاب الرأي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد وإسحاق ، وبهذا قال جمهور الأمة من السلف والخلف ، قال nindex.php?page=showalam&ids=12918ابن المنذر : وقالت طائفة : يجب الإشهاد على البيع ، وهو فرض لازم يعصى بتركه ، قال : روينا هذا عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : وكان nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر إذا باع بنقد أشهد ، ولم يكتب ، قال : وروينا عن nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد قال : ثلاثة لا يستجاب لهم دعوة : رجل باع بنقد فغش قال : وروينا نحو هذا عن nindex.php?page=showalam&ids=11935أبي بردة بن أبي موسى وأبي سليمان المرعشي ، واحتجوا بقوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } واحتج الجمهور بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم باع واشترى ، ولم ينقل الإشهاد في ذلك وكذلك الصحابة [ ص: 181 ] في زمنه وبعده ، وحملوا الآية الكريمة على الاستحباب لما ذكرناه ، والله أعلم .