( وأما ) ما وقع في الوسيط وبعض كتب الفقه في هذا الحديث [ ص: 226 ] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " واشترط الخيار ثلاثة أيام " فمنكر لا يعرف بهذا اللفظ في كتب الحديث . واعلم أن أقوى ما يحتج به في ثبوت خيار الشرط الإجماع ، وقد نقلوا فيه الإجماع وهو كاف ، والحديث المذكور يحتج به لكن في دلالته باللفظ الذي ذكرناه نظر والله أعلم .
أما الأحكام ففيها مسائل : ( إحداها ) يصح شرط الخيار في البيع بالإجماع إذا كانت مدته معلومة .
( الثانية ) لا يجوز عندنا أكثر من ثلاثة أيام للحديث المذكور ، ولأن الحاجة لا تدعو إلى أكثر من ذلك غالبا ، وكان مقتضى الدليل منع شرط الخيار ، لما فيه من العذر ، وإنما جوز للحاجة فيقتصر فيه على ما تدعو إليه الحاجة غالبا ، وهو ثلاثة أيام ، هذا هو المشهور في المذهب وتظاهرت عليه نصوص nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رحمه الله - ، وقطع به الأصحاب في جميع الطرق ، وفيه وجه أنه يجوز أكثر من ثلاثة أيام إذا كانت مدة معلومة ، وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=12918ابن المنذر ، قاله في الإشراف ، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { nindex.php?page=hadith&LINKID=15091المؤمنون على شروطهم } والله أعلم . قال أصحابنا : فإن زاد على ثلاثة أيام ولو لحظة بطل البيع .
( قال أصحابنا ) : ويشترط كون المدة معلومة ، فإن شرطا الخيار مطلقا ولم يقدراه بشيء أو قدراه بمدة مجهولة كقوله : بعض يوم ، أو إلى أن يجيء زيد أو غير ذلك ، بطل البيع بلا خلاف عندنا ، ولو شرطاه إلى وقت طلوع الشمس من الغد جاز بلا خلاف ، ولو شرطاه إلى طلوعها فقد قال nindex.php?page=showalam&ids=11872القاضي أبو الطيب في كتابيه التعليق والمجرد : قال أبو عبد الله الزبيري في كتاب الفصول : لا يصح البيع لأن طلوع الشمس قد لا يحصل لحصول غيم في السماء ، قال : فلو قال : إلى غروب الشمس أو إلى وقت الغروب صح لأن الغروب لا يستعمل إلا في سقوط قرص الشمس هذا كلام الزبيري وسكت عليه nindex.php?page=showalam&ids=11872القاضي أبو الطيب ، وحكاه أيضا عنه المتولي وسكت عليه .
( فأما ) شرطهما إلى وقت الطلوع وإلى الغروب أو وقت الغروب فيصح باتفاق الأصحاب كما قاله الزبيري ، وأما إذا شرطاه إلى الطلوع فقد خالفه غيره وقال بالصحة لأن الغيم إنما يمنع من إشراق الشمس واتصال الشعاع لا من نفس الطلوع ، وهذا هو الصحيح والله أعلم .
( أما ) إذا تبايعا نهارا بشرط الخيار إلى الليل أو ليلا بشرط الخيار إلى النهار ، فيصح البيع بلا خلاف ولا يدخل الزمن الآخر في الشرط بلا خلاف عندنا ، وحكى nindex.php?page=showalam&ids=11872القاضي أبو الطيب في تعليقه عن nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة أنه [ ص: 228 ] قال : يدخل ، لأن لفظة ( إلى ) قد تستعمل بمعنى ( مع ) كقوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } دليلنا أن أصل ( إلى ) الغاية فهذا حقيقتها ، فلا تحمل على غيره عند الإطلاق ، وأما استعمالها بمعنى ( مع ) في بعض المواطن ففيه جوابان ( أحدهما ) أنها مؤولة ، ففي الآية المذكورة تقديره " مضافة إلى أموالكم " ( والثاني ) أنها استعملت بمعنى ( مع ) مجازا فلا يصير إلى المجاز في غيرها بغير قرينة ، ولأنهم وافقونا على أنه لو باع بثمن مؤجل إلى رمضان لا يدخل رمضان في الأجل والله أعلم .
( الرابعة ) إذا شرطا الخيار ثلاثة أيام أو غيرها ثم أسقطاه قبل انقضاء المدة سقط ، لما ذكره المصنف ، وكذا لو أسقط أحدهما خياره سقط وبقي خيار الآخر . ولو أسقطا اليوم الأول سقط الجميع ، ولو أسقطا الثالث لم يسقط ما قبله ، قال nindex.php?page=showalam&ids=14958القاضي حسين والبغوي والمتولي : فلو قال : أسقطت الخيار في اليوم الثاني بشرط أنه يبقى في الثالث سقط خياره في اليومين جميعا ، لأنه كما لا يجوز أن يشترط خيارا متراخيا عن العقد ، لا يجوز أن يستبقي خيارا متراخيا ، وإنما يجوز أن يستبقي اليومين تغليبا للإسقاط ، لأن الأصل لزوم العقد وإنما جوزنا الشرط لأنه رخصة ، فإذا عرض له ذلك حكم بلزوم العقد ، والله أعلم .
( الخامسة ) فيما يثبت فيه خيار الشرط من العقود ، قال أصحابنا : جملة القول فيه أنه مع خيار المجلس متلازمان غالبا ، لكن خيار المجلس أسرع وأولى ثبوتا من خيار الشرط ، فقد ينفكان لهذا ، فإذا أردت التفصيل فراجع ما سبق في خيار المجلس ، وهما متفقان في صور الوفاق والخلاف إلا في أشياء : ( أحدها ) أن البيوع التي يشترط فيها التقابض في المجلس كالصرف [ ص: 229 ] وبيع الطعام بالطعام أو القبض في أحد العوضين كالسلم لا يجوز شرط الخيار فيها بلا خلاف ، مع أن خيار المجلس يثبت فيها ، ودليل المسألة مذكور في الكتاب ، وقد أهمل المصنف ذكر السلم هنا ، ولكنه ذكره في كتاب السلم .
( الرابع ) في الهبة بشرط ، وفي الإجارة طريق قاطع بأنه لا يثبت خيار الشرط مع جريان الخلاف في ثبوته في خيار المجلس .
( وأما ) شرط الخيار في الصداق فسيأتي في كتاب الصداق إن شاء الله تعالى إيضاحه وتفصيله ، ومختصره أن الأصح صحة النكاح ، وفساد المسمى ، ووجوب مهر المثل ، وأنه لا يثبت الخيار ، والله تعالى أعلم .
( فرع ) قال جماعة من أصحابنا : قد اشتهر في الشرع أن قوله : لا خلابة عبارة عن اشتراط الخيار ثلاثة أيام ، فإذا أطلق المتعاقدان هذه اللفظة وهما عالمان بمعناها كان كالتصريح بالاشتراط ، وإن كانا جاهلين لم يثبت الخيار قطعا ، فإن علمه البائع دون المشتري فوجهان مشهوران حكاهما المتولي وابن القطان وآخرون ( أصحهما ) لا يثبت ( والوجه الثاني ) يثبت ، وهذا شاذ ضعيف ، بل غلط ، لأن معظم الناس لا يعرفون ذلك والمشتري غير عارف به .
[ ص: 230 ] فرع ) لو اشترى شيئا بشرط أنه إن لم ينقده الثمن في ثلاثة أيام ، فلا بيع بينهما ، أو باع بشرط أنه إن رد الثمن في ثلاثة أيام فلا بيع بينهما ، فوجهان حكاهما المتولي وغيره ( أحدهما ) يصح العقد ، ويكون تقرير الصورة الأولى أن المشتري شرط الخيار لنفسه فقط ، وفي الثانية أن البائع شرطه لنفسه فقط ، وهذا قول nindex.php?page=showalam&ids=11817أبي إسحاق قال : لأن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجاز ذلك ( والثاني ) وهو الصحيح باتفاقهم ، وبه قطع الروياني وغيره ، أن البيع باطل في الصورتين ، لأن هذا ليس بشرط خيار ، بل هو شرط فاسد مفسد للبيع ، لأنه شرط في العقد شرطا مطلقا ، فأشبه ما لو باع بشرط أنه إن قدم زيد القوم فلا بيع بينهما .
( فرع ) قال المتولي وغيره : إذا قال : بعتك بشرط خيار يوم ، اقتضى إطلاقه اليوم الذي وقع فيه العقد ، كما لو حلف لا يكلمه شهرا ، فإن كان العقد نصف النهار مثلا ثبت له الخيار إلى أن ينتصف النهار في اليوم الثاني ، ويدخل الليل في حكم الخيار للضرورة ، وإن كان العقد في أول وقت العصر ، ثبت إلى مثله من اليوم الثاني ، وإن كان العقد في الليل ثبت الخيار إلى غروب الشمس من اليوم المتصل بذلك الليل .
[ ص: 231 ] فرع ) إذا شرطا في البيع خيارا أكثر من ثلاثة أيام ، فقد ذكرنا أن البيع باطل فلو أسقطا الزيادة بعد مفارقة المجلس ، وقبل انقضاء الثلاثة ، لا ينقلب العقد صحيحا عندنا بلا خلاف وكذا لو باع بثمن إلى أجل مجهول ثم قدر الأجل قبل أن يتوهم دخول وقت المطالبة ، لا ينقلب العقد صحيحا ، ولا خلاف في الصورتين عندنا ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة : يصح العقد في الصورتين قال المتولي : واختلف أصحاب nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة في أصل العقد فمنهم من يقول : وقع العقد فاسدا ، وبإسقاط الزيادة والجهالة يعود صحيحا ، ومنهم من قال : وقع صحيحا ، وإذا لم تسقط الزيادة فسد ، ومنهم من قال : هو موقوف ، دليلنا أن ما وقع على وجه - لا يثبت دائما - لم يعد صحيحا ، كما لو نكح امرأة وعنده أربع ، ثم طلق إحداهن ، لا يحكم بصحة نكاح الخامسة .
( أما ) إذا أسقطا الزيادة على ثلاثة أيام في مجلس العقد ، فوجهان حكاهما المتولي وآخرون هنا ، وهما مشهوران جاريان في كل شرط فاسد قارن العقد ثم حذف في المجلس ( أحدهما ) وبه قال صاحب التقريب : يصح العقد لأن حكم المجلس حكم حالة العقد ، ولأن nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رحمه الله - قال لو لم يذكرا في السلم أجلا ثم ذكراه قبل التفرق جاز ( والثاني ) وهو الصحيح باتفاق الأصحاب أن العقد باطل ، ولا يعود صحيحا بذلك لأن المجلس إنما ثبت لعقد صحيح لا لفاسد ( وأما ) السلم ففرعه nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي على الصحيح من القولين وهو صحة السلم مطلقا ، ويكون حالا ، والله أعلم .
[ ص: 232 ] فرع ) اتفق أصحابنا على أن الوكيل بالبيع لا يجوز أن يشترط الخيار للمشتري . وأن الوكيل في الشراء لا يجوز أن يشترط الخيار للبائع من غير إذن الموكل ، كما لو باع بثمن مؤجل من غير إذن ، وقد ذكر المصنف المسألة في كتاب الوكالة ، قال المصنف والأصحاب : وهل يجوز أن يشترط الخيار لنفسه أو لموكله ؟ فيه وجهان مشهوران ( أحدهما ) لا يجوز ، لأن إطلاق البيع يقتضي البيع بلا شرط ، فلا يجوز الشرط من غير إذن ، فعلى هذا لو شرطه كان العقد باطلا ( وأصحهما ) يصح ، وبه قطع جماعة منهم nindex.php?page=showalam&ids=14958القاضي حسين والفوراني هنا ، والمتولي في كتاب الوكالة ، لأنه لا ضرر على الموكل في هذا ، ولأنه مأمور بالمصلحة ، وهذا منها ، قال أصحابنا : وإذا شرط الخيار لنفسه وجوزناه على الأصح أو أذن فيه الموكل ، ثبت له الخيار ، ولا يفعل إلا ما فيه المصلحة من الفسخ والإجازة ، لأنه مؤتمن . بخلاف ما سنذكره إن شاء الله تعالى قريبا - إذا شرط الخيار لأجنبي وصححناه - فإنه لا يلزمه رعاية الحظ ، لأنه ليس بمؤتمن ، هكذا ذكره الأصحاب . قال الرافعي : ولقائل أن يقول : جعل الخيار له استئمانا قال : وهذا المعنى أظهر - إذا جعلناه نائبا عن العاقد - ثم هل يثبت للموكل الخيار مع الوكيل في هذه الصورة ؟ فيه الخلاف الذي سنذكره إن شاء الله تعالى فيما إذا شرط الخيار لأجنبي ، وقلنا : يثبت له ، هل يثبت للشارط ؟ فيه وجهان أو قولان ( أصحهما ) لا يثبت . وهو ظاهر النص ، لأن ثبوته بالشرط فكان لمن شرطه خاصة ، أما إذا أذن له الموكل في شرط الخيار وأطلق ، فشرط الوكيل الخيار مطلقا ، ولم يقل : لي ولا لموكلي ، فقد ذكر إمام الحرمين والغزالي فيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) يثبت الخيار للوكيل ، لأنه العاقد ( والثاني ) للموكل ، لأنه المالك ( والثالث ) لهما ، والأصح للوكيل لأن معظم أحكام العقد متعلقة به وحده ، والله أعلم .
[ ص: 233 ] فرع ) إذا مضت مدة الخيار من غير فسخ ولا إجازة تم البيع ولزم بلا خلاف عندنا . وقال nindex.php?page=showalam&ids=0016867مالك : لا يلزم بمضي المدة ، كما لا يلزم المولى حكم الإيلاء بمجرد مضي المدة ، دليلنا أن الخيار يمنع لزوم العقد ، فإذا انقضت مدته لزم بخلاف الإيلاء .