قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن باع حائطا أبر بعضه دون بعض جعل الجميع كالمؤبر ، فيكون الجميع للبائع ; لأنا لو قلنا : إن ما أبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري أدى إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي فجعل ما لم يؤبر تبعا للمؤبر ; لأن الباطن يتبع الظاهر ، ولم يجعل ما أبر تابعا لما لم يؤبر ; لأن الظاهر لا يتبع الباطن ، ولهذا جعلنا أساس الدار تابعا لظاهرها في تصحيح البيع ، ولم نجعل ظاهرها تابعا للباطن في إفساد البيع . وقال أبو علي بن خيران : إن كان نوعا واحدا جعل غير المؤبر تابعا للمؤبر ، وإن كان نوعين لم يجعل ما لم يؤبر من أحد [ ص: 52 ] النوعين تابعا للمؤبر من نوع آخر ; لأن النوع الواحد يتقارب ظهوره والنوعان يختلف ظهورهما والمذهب الأول لما ذكرناه من سوء المشاركة واختلاف الأيدي وذلك يوجد في النوعين كما يوجد في النوع الواحد . وأما إذا كان له حائطان فأبر أحدهما دون الآخر وباعهما فإن المؤبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري ولا يتبع أحدهما الآخر ; لأن انفراد كل واحد منهما بثمرة حائط لا يؤدي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي ، فاعتبر كل واحد منهما بنفسه ) .
( الشرح ) الحائط وهو البستان من النخيل ( أما الأحكام ) ففي هذه الجملة مسألتان : ( الأولى ) إذا باع حائطا أبر بعضه دون بعض جعل الجميع كالمؤبر ، وجعل ما لم يؤبر تابعا لما أبر . ( أما ) إذا كان نوعا واحدا فاتفق عليه الأصحاب تبعا nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي رضي الله عنه واستدلوا هم وغيرهم لذلك بأن تأبير البعض يحصل للنخل اسم التأبير فيشمله قوله صلى الله عليه وسلم " من باع نخلا قد أبرت " قال nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : وأصل الإبار أن يكون في شيء منه الإبار ، فيقع عليه اسم أنه قد أبر ، كما لو بدا صلاح شيء منه ، وفيما ذكروه من إطلاق اسم التأبير على الجميع بتأبير بعضها توقف لا يخفى ، لا سيما على ما يقوله أصحابنا أنه يكفي تأبير نخلة واحدة في البستان ، بل طلعة واحدة ويصير الباقي تبعا فدعوى إطلاق التأبير على الجميع حقيقة في غاية البعد . وقد وقع في كلام nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم ما يقتضي أن لفظ الحديث : وفيها ثمرة قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ، وهذا لو ثبت كان صريحا في المطلوب ، لكني لم أجده في شيء من ألفاظ الحديث التي وقفت عليها ، وإنما فيها كلها جعل التأبير صفة للنخل المبيعة ، وحقيقة ذلك أن يكون في الجميع ، واللفظ الذي ذكره nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم لم يذكره بإسناد بل أتى به في ضمن استدلال ، فلعله لم يتثبت فيه ، نعم لا يشترط أن يوجد التأبير في كل طلع النخلة ، بل متى وجد في شيء منها صح أنها أبرت ، فيكون جميع ثمرتها للبائع ، وإن كان بعضها غير مؤبرة استدلالا بالحديث ، ويعضد الأصحاب وغيرهم فيما اتفقوا عليه من الاكتفاء بتأبير البعض أن العادة لم تجر بتأبير جميع النخل ، بل يكتفون بتأبير بعضها . [ ص: 53 ]
واستدل nindex.php?page=showalam&ids=11817أبو إسحاق المروزي لذلك بما ذكره المصنف ، وزاده المصنف بالاستشهاد بأساس الدار ، وهو جواب عن سؤال مقدر أورده الشيخ nindex.php?page=showalam&ids=11976أبو حامد والماوردي وغيرهما ، وأجابوا عنه وهو أنه هلا جعل ما أبر تابعا لما لم يؤبر في دخوله في البيع ؟ وأجابوا بأنه استقر في الشرع أن الباطن تبع للظاهر ، وليس الظاهر تبعا للباطن ، فإن ما بطن من أساس الحائط ورءوس الأجذاع تبع لما ظهر في جواز البيع ، وأيضا فإنه كان يلزم منه مخالفة منطوق الحديث ولك أن تقول على الأول : إن الحكم بتبعية الأساس أمر ضروري لصحة البيع ولا كذلك الثمار ; ألا ترى أنه لو شرط أن تكون المؤبرة للبائع وغير المؤبرة للمشتري ، اتبع شرطه ، فإنها لو كانت كلها مؤبرة وشرط بعضها ; اتبع شرطه وسوء المشاركة موجود فكأنهما رضيا به ، وأورداه العقد عليه ، وكل عقد فيه مشاركة فهو مظنة الضرر ومع ذلك يصح كثير من العقود المقتضية للمشاركة ، واستدلوا أيضا بأن بدو الصلاح في بعضها بمنزلة بدو الصلاح في جميعها ، فكذلك التأبير ، ولك أن تجيب بأن المعنى في الأصل أن الثمرة متى تركت حتى يوجد الصلاح في جميعها ; أدى إلى أن لا يصح بيعها بحال فإنه إلى أن يتكامل فيها يتساقط الأول فيؤدي إلى فساد الثمرة وتأذي مالكها وليس هذا المعنى موجودا هنا ، والله أعلم ، وفي كلام nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في الأم إشارة إلى الدليلين اللذين استدل بهما الأصحاب .
( وأما ) إذا كان الحائط أنواعا فالمذهب أيضا أن ما لم يؤبر تابع لما أبر ، فإن nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي قال : إذا بيعت رقبة الحائط وقد أبر شيء من نخله فثمرة النخل تلك في عامه ذلك للبائع ، ولو كان منه ما لم يؤبر ، ولم يطلع ; لأن حكم ثمرة ذلك النخل في عامه ذلك حكم واحد ، كما يكون إذا بدا صلاحه ولم يؤبر ، قال صاحب التتمة : ويخالف الجارية الحامل بولدين ، وضعت أحدهما ثم باعها قبل وضع الآخر ، لا يجعل تبعا للمولود على ظاهر المذهب ; لأن الولد بعد الانفصال ليس له تعلق بالأم فيفرد كل واحد بحكمه والطلع بعد التأبير متصل بالشجرة ، هذا الفرق ذكره صاحب التتمة في النخلة الواحدة يكون بعض طلعها مؤبرا وبعضها غير مؤبر ، فأما إذا كان بعض النخيل مؤبرا وبعضها غير مؤبر ففرق بينه وبين الأغنام يبيعها وقد نتج بعضها يبقى نتاجها [ ص: 54 ] للبائع والتي لم تنتج يدخل حكمها في العقد ; لأن نتاج الأغنام لا يتفق في وقت واحد بخلاف النوع الواحد من النخيل .
وقال أبو علي بن خيران : لا يكون تأبيرا إلا في نوعه ; لأن الأنواع يختلف إدراكها وتتفاوت ، والنوع الواحد لا يتفاوت ، ورد الأصحاب عليه بما ذكره المصنف وممن وافق الأصحاب على ذلك nindex.php?page=showalam&ids=12535أبو علي بن أبي هريرة لكنه شرط في ذلك أن يكون أطلع حتى يكون في حكم المؤبر وإن اختلف النوع ( أما ) ما ظهر من الطلع بعد البيع ، فقال بأنه للمشتري ; لأنه ظهر في ملكه وغلطوه في ذلك بالنص الذي قدمته عن nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي آنفا ، وحكمه بأن ثمرة ذلك العام للبائع ، ولو كان فيه ما لم يؤبر ولم يطلع ، وهذا نص صريح . وقول nindex.php?page=showalam&ids=12535ابن أبي هريرة هذا صححه الماوردي ، وسيأتي في كلام المصنف ، وإنما ذكرته هنا لتعلقه به ، فإنه ينتظم به فيما إذا باع نخلا وفيه ثمرة مؤبرة ثلاثة أوجه : ( أحدها ) وهو المذهب أن ثمرة جميع ذلك العام للبائع ( والثاني ) قول ابن خيران ليس للبائع إلا المؤبر ( والثالث ) قول nindex.php?page=showalam&ids=12535ابن أبي هريرة : أن للبائع المؤبر ، والمطلعة غير المؤبرة عند البيع وللمشتري ما أطلع بعد البيع والله أعلم ولم يقل أحد من الأصحاب بإفراد المؤبر بحكمه ، ومذهب nindex.php?page=showalam&ids=0016867مالك رحمه الله أنه إذا أبر أكثر الحائط فهو للبائع حتى يشترطه المبتاع ، وإن كان المؤبر أقله فكله للمبتاع ، واضطربوا إذا أبر نصفه ، قال nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : والأظهر من المذهب أنه للمبتاع إلا أن يكون النصف مفردا فيكون للبائع .
( فرع ) هذا كله فيما إذا باع الجميع ، أما إذا أفرد غير المؤبر بالبيع فسيأتي ذلك في كلام المصنف رحمه الله تعالى إن شاء الله تعالى .
( المسألة الثانية ) إذا كان له حائطان فأبر أحدهما دون الآخر وباعهما فإن المؤبر للبائع ، وما لم يؤبر للمشتري ، ولا يتبع أحدهما الآخر لما ذكره المصنف ، هذا هو الصحيح المشهور الذي جزم به القاضي nindex.php?page=showalam&ids=11872أبو الطيب والماوردي والروياني كما فرقنا في الشفعة بين ما قسم وبين ما لم يقسم ، وقاسه الشيخ nindex.php?page=showalam&ids=11976أبو حامد أيضا على بدو الصلاح ، فإن بدو الصلاح في أحد الحائطين لا يستتبع [ ص: 55 ] الآخر ، وفيه وجه آخر أن أحد البستانين يتبع الآخر ، وجعل الرافعي الخلاف في البستانين مرتبا على البستان الواحد فحيث قلنا في البستان الواحد أن كل واحد من المؤبر وغير المؤبر يفرد بحكمه فههنا أولى . وحيث قلنا بأن غير المؤبر يتبع فههنا وجهان ( أصحهما ) إن كان بستان يفرد حكمه ، والفرق أن لاختلاف البقاع تأثيرا في وقت التأبير فاقتضى كلام الرافعي رحمه الله جريان الخلاف في البستانين في صور : ( إحداها ) : عند اتحاد النوع والصفقة ( والثانية ) : عند اختلاف النوع على المذهب
( والثالثة ) : عند تعدد الصفقة إذا أفرد البستان الذي لم يؤبر بالبيع ، فإنه يكون كما لو أفرد غير المؤبر في البستان الواحد ، ولنا فيه خلاف سيأتي ، الأصح أنه لا يتبع فعلى الوجه الآخر مقتضى كلام nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أن يأتي في البستانين خلاف إذا أفرد غير المؤبر بالبيع ، وكلام المصنف يقتضي على الصورتين الأوليين ما اقتضاه كلام الرافعي من جريان خلاف عند اتحاد النوع والصفقة موجود لغيره ، فإن القاضي nindex.php?page=showalam&ids=17حسينا حكى عنه في ذلك وجهين . وأما عند اختلاف النوع فغريب ، وقد جزم صاحب التتمة فيه بعدم التبعية ، وجعل محل الوجهان فيما إذا كان الصنف واحدا ، فأما إذا أفرد البستان الذي لم يؤبر بالبيع فأغرب لم أره لغير الرافعي ، لكنه يشبه ما ذكره الأصحاب في بدو الصلاح والفرق واضح من جهة أن المطلوب ببدو الصلاح أمنها من العاهة ، وقد يقال : إنه حاصل بدخول وقته وإن لم تشمله صفقة ، والمطلوب تأثير أن يكون المبيع أو بعضه بارزا وهو مفقود ههنا قال الرافعي وغيره : ولا فرق بين أن يكون البستانان متلاصقين أو متباعدين . قال ابن الرفعة : يشترط أن يكونا في إقليم واحد بل في مكان طبعه واحد وما ذكره صحيح مأخوذ من كلام nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رضي الله عنه وعليه يحمل كلام الرافعي وغيره ، ثم اعلم أن المراد بالحائطين ما يكون [ ص: 56 ] أحدهما مثمرا غير الآخر ولا يشترط أن يكون محوطا ، فإن صاحب البيان ذكر المسألة فيما إذا كان له حائطان فيهما نخيل أو قطعتان من الأرض فيهما نخيل ، لكن ينبغي أن يضبط ذلك بضابط ، فإن قطعتي الأرض المتجاورتين كالأرض الواحدة التي لها جانبان ، وجعل التأبير في أحد الجانبين دون الآخر ، ثم باع الجميع فإن ما لم يؤبر تابع لما أبر ، فإذا كان الأرضان غير متجاورتين كانا كذلك ، فينبغي أن يضبط ذلك بأن يكون بينهما نوع من التمييز حتى يعدا في العرف مكانين ، ولا يعدان مكانا واحدا ، وأسباب ذلك إما حاجز بينهما ، وإما غير ذلك مما هو معلوم في العرف فإن من الأراضي ما هي قطعة متجاورة ويحكم أهل العرف بأنها أراض لا أرض واحدة لنوع من التمييز بينها . ( وأما ) القطعة الواحدة إذا أبر جانبا منها دون جانب ثم باع الجميع حصلت التبعية ; لأن صاحب الحاوي قال : وقال الشيخ nindex.php?page=showalam&ids=11976أبو حامد : إنه لا يشترط الحاجز ، وإنما يعتبر أن يصدق عليهما اسم الانفراد وهو إشارة إلى ما قلناه .
( فرع ) هذا الحكم المذكور من أول الفصل إلى هنا أن المؤبر لا يتبع النخلة المبيعة ، وغير المؤبر يتبع ، لا فرق فيه بين أن يكون المبيع النخيل دون البستان أو معه ، وهذا - وإن كان من الواضحات - فإن صاحب العدة صرح به ، فذكرته تبعا له ورغبة في الإيضاح ، والله سبحانه أعلم .