صفحة جزء
[ ص: 194 ] باب بيع المصراة والرد بالعيب قال المصنف رحمه الله تعالى : إذا اشترى ناقة أو شاة أو بقرة مصراة ولم يعلم بأنها مصراة ، ثم علم : أنها مصراة ، فهو بالخيار بين أن يمسك وبين أن يرد ، لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا تصروا الإبل والغنم للبيع ، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثا ، إن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر } وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام ، فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا . }


( الشرح ) حديث أبي هريرة متفق عليه ، رواه الأئمة مالك في الموطإ والشافعي رضي الله عنه والبخاري ومسلم في صحيحيهما وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ، وليس في شيء من ألفاظهم ولا في غيرها مما وقفت عليه من كتب الحديث اللفظ الذي أورده المصنف هكذا . وهذا الحديث رواه عن أبي هريرة جماعة ، منهم عبد الرحمن الأعرج المشهور بصحته ، ولفظه { لا تصروا الإبل والغنم ، فمن ابتاعها بعد ذلك ، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر } رواه البخاري ومسلم وأبو داود ، وليس فيه : " بعد أن يحلبها ثلاثا " . وكذلك رواه الشافعي وفيها زيادة : { لا تصروا الإبل والغنم للبيع } ، كذلك رواه المزني عنه ، وقيل : إن المزني انفرد بهذه الزيادة عن الشافعي رحمه الله تعالى ، وأما الربيع فإنه روى عنه كما روى الجماعة بدون هذه الزيادة . ومن الرواة له عن أبي هريرة رضي الله عنه أبو بكر محمد بن سيرين ، ولفظه : { من اشترى شاة مصراة ، فهو بالخيار ثلاثة أيام ، فإن ردها رد معها صاعا من التمر لا سمراء } وفي رواية من طريقه : " { من اشترى [ ص: 195 ] مصراة ، فهو بخير النظرين إن شاء أمسكها ، وإن شاء ردها وصاعا من تمر لا سمراء } رواهما مسلم وأبو داود . وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه بعض ذلك ، وروى أبو صالح عن أبي هريرة ولفظه : { من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام ، وإن شاء أمسكها ، وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر } رواه مسلم ، قال البخاري : قال بعضهم عن ابن سيرين : { صاعا من طعام . وهو بالخيار ثلاثا } ، وقال بعضهم عن ابن سيرين : صاعا من تمر . ولم يذكر ثلاثا والتمر أكثر . ا هـ كلام البخاري ، ورواه عن أبي هريرة موسى بن يسار ولفظه : { من اشترى شاة مصراة فلينقلب بها فليحلبها ، فإن رضي حلابها أمسكها وإلا ردها ، ورد معها صاعا من تمر } ، رواه مسلم ، ورواه عن أبي هريرة أبو صالح ولفظه : { من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام ، إن شاء أمسكها ، وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر } ، رواه مسلم . وفي لفظ من رواية ابن سيرين { : من اشترى من الغنم فهو بالخيار } رواه مسلم ، ورواه عن أبي هريرة همام بن منبه ولفظه : { إذا ما أحدكم اشترى نعجة مصراة أو شاة مصراة ، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ، إما هي وإلا فليردها وصاعا من تمر } رواه مسلم . قال بعضهم : وهو دليل على الرد بغير أرش . ورواه عن أبي هريرة ثابت مولى عبد الرحمن بن زيد ، ولفظه : { من اشترى غنما مصراة فاحتلبها ، فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر } ، رواه البخاري وأبو داود ، وقال بعضهم : وهو دليل على أن صاع التمر في مقابلة اللبن وأنه أخذ قسطا من الثمن . ورواه عن أبي هريرة الشعبي ، ولفظه { من اشترى منكم محفلة فكرهها فليردها وليرد معها صاعا من طعام } ، رواه ابن الجارود ، وفي لفظ من رواية ابن سيرين { : من اشترى نعجة مصراة أو شاة مصراة فحلبها ، فهو بأحد النظرين بالخيار إن شاء ردها وإناء من طعام } ، رواه البيهقي عن أبي عبد الله الحاكم بسند صحيح ، وكل هذه الألفاظ [ ص: 196 ] مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهذه روايات أبي هريرة ليس في شيء منها اللفظ الذي ذكره المصنف بتمامه ، بل طريق الأعرج جمعت بين النهي عن التصرية وبيان حكمها من غير ذكر الثلاث ، وطريق ابن سيرين وأبي صالح فيها ذكر الثلاث ، وهي مقتصرة على بيان الحكم والظاهر : أنهما حديثان وليسا حديثا واحدا حتى يمكن أن تضاف هذه الزيادة إلى الرواية الأولى ، بل والمعنى أيضا مختلف ; لأن رواية ابن سيرين وأبي صالح اللتين فيهما ذكر الثلاث ( فالأول ) : يقتضي إثبات الخيار ثلاثا من غير بيان ابتدائه ( والثاني ) : يقتضي إثبات الخيار من غير بيان مدته ، فالجمع بينهما كما في الكتاب يقتضي التصريح بحكم لم يصرح به في شيء من الروايتين ، وهو : أن يكون الخيار بعد الحلب ثلاثا . فالثلاث : إما راجعة للخيار فيقتضي أنه بعد حلبها ثلاثا يثبت الخيار وكل واحد من الأمرين لم يدل عليه شيء من الروايات صريحا ، وأما الثاني : فلم يدل عليه أصلا لا صريحا ولا ظاهرا ، وممن ذكر الحديث كما ذكره المصنف سواء ، العبدري في الكفاية والرافعي في التهذيب وقالا : رواه البخاري ومسلم وينبغي : أن يكون مرادهما أصل الحديث ، لا ذلك اللفظ ، وممن ذكره كذلك أيضا الشيخ أبو حامد في تعليقه ، وذكر أنه حديث مختصر المزني ، والمصنف تبع الشيخ أبا حامد في ذلك ، والموجود في مختصر المزني ليس فيه هذه اللفظة ، ولم يذكرها القاضي أبو الطيب في تعليقه أيضا ، وإنما ذكر على الصواب ، وذكره ابن أبي هريرة في تعليقه بلفظ قريب مما ذكره المصنف فيه الخيار ثلاثا ، وليس فيه : بعد أن يحلبها ، وهو مصدر بالنهي كما ذكره المصنف ، وهو في الغرابة كاللفظ الذي أورده المصنف ، وذكره أيضا جماعة من الأصحاب منهم الغزالي كما ذكره المصنف . وأصل الحديث ثابت متفق عليه بالألفاظ المتقدمة على ما تبين ، أجمع أهل العلم بالحديث على صحته وثبوته من حديث أبي هريرة ، رواه عنه الأعرج ومحمد بن سيرين وأبو صالح السمان وهمام بن منبه وثابت مولى عبد الرحمن ، وقد تقدمت روايتهم ، ومحمد بن زياد ورواياته في جامع الترمذي بقريب من الألفاظ المتقدمة وموسى بن يسار ، وقد تقدم ومجاهد وأبو إسحاق ويزيد بن عبد الرحمن بن أذينة وغيرهم ، ورواه عن هؤلاء وعمن بعدهم خلائق لا يحصون ، [ ص: 197 ] حتى ادعى بعضهم أنه صار إلى التواتر . وقال ابن عبد البر : حديث المصراة ثابت صحيح لا يدفعه أحد من أهل العلم بالحديث .

وأما حديث ابن عمر فرواه أبو داود وابن ماجه باللفظ الذي ذكره المصنف ، قال الخطابي : وليس إسناده بذاك ، قال الحافظ المنذري : والأمر كما قال : فإن جميع بن عمير ، قال ابن نمير : من أكذب الناس ، وقال ابن حبان : كان رافضيا يضع الحديث ، ( قلت ) : وجميع هو الذي رواه عن ابن عمر ، وهذا الكلام عن ابن نمير وابن حبان من أشد ما قيل فيه ، وقد قال ابن أبي حاتم : سألت أبي عنه فقال : من عتق الشيعة ومحله : الصدق صادق الحديث كوفي تابعي . وقال البخاري في التاريخ الكبير : فيه نظر ، وقال البيهقي في المعرفة لما ذكر هذا الحديث : هذه الرواية غير قوية ، وقال في كتاب السنن الكبير : تفرد به جميع بن عمير ، وذكر عبد الحق هذا الحديث في الأحكام ولم يتعرض لحال جميع بن عمير هذا ، وإنما بصدقة بن سعيد الراوي عن جميع ، فإنه أيضا ليس بالقوي ، فهذا ما يتعلق بالحديثين اللذين في الكتاب . وقد روي حديث المصراة عن ابن عمر أيضا بما يوافق رواية أبي هريرة ، رواه الدارقطني من حديث ليث عن مجاهد عن ابن عمر وأبي هريرة رفعا الحديث : { لا يبع حاضر لباد ، ولا تلقوا السلع بأفواه الطرق ، ولا تناجشوا ، ولا يسم الرجل على سوم أخيه ، ولا يخطب على خطبة أخيه ، حتى ينكح أو يرد ، ولا تسل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها ، فإنما لها ما كتب لها ، ولا تبيعوا المصراة من الإبل والغنم ، فمن اشتراها فهو بالخيار إن شاء ردها وصاعا من تمر ، والرهن مركوب ومحلوب } . وليث المذكور في سنده هو ليث بن أبي سليم ، ولا تقوم به حجة عند أكثر أهل العلم بالحديث . وروى الدارقطني من حديث كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده ، وهو عمرو بن عوف المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 198 ] { لا جلب ولا جنب ولا إعراض ، ولا يبع حاضر لباد ، ولا تصروا الإبل والغنم ، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو إذا حلبها بخير النظرين إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر } وكثير بن عبد الله هذا ضعيف جدا ، قال الشافعي رحمه الله فيه : ركن من أركان الكذب ، وقال ابن حبان : له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة . قال الدارقطني عقب هذا الحديث : تابعه عاصم بن عبد الله عن سالم عن ابن عمر في المصراة ، وروى البيهقي رحمه الله في السنن الكبير بسند جيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى التابعي الكبير الثقة المشهور عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي : صلى الله عليه وسلم { أنه نهى عن أن تتلقى الأجلاب ، وأن يبيع حاضر لباد ، ومن اشترى مصراة فهو بخير النظرين ، فإن حلبها ورضيها أمسكها ، وإن ردها رد معها صاعا من طعام أو صاعا من تمر } . قال البيهقي : يحتمل أن يكون هذا شكا من بعض الرواة فقال : صاعا من هذا أو من ذاك ، لا أنه على وجه التخيير ليكون موافقا للأحاديث الثابتة في هذا الباب . وروى البيهقي رحمه الله أيضا من حديث إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من اشترى شاة محفلة ، فإن لصاحبها أن يحتلبها ، فإن رضيها فليمسكها ، وإلا فليردها وصاعا من تمر } إسماعيل بن مسلم متروك . وروى أبو بكر الإسماعيلي رضي الله عنه في كتابه الصحيح المستخرج على صحيح البخاري رحمه الله من حديث سليمان التيمي ، عن عبد الله ، وهو ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من اشترى شاة محفلة فردها فليرد معها صاعا } رواه من حديث أبي خلف العمي ، لكنه اختلف في وقفه ورفعه ، فرواه البخاري في الصحيح موقوفا من قول ابن مسعود رضي الله عنه وكذلك رواه الشافعي في الأم في أحكام علي وابن مسعود رواه عن هشام . هكذا رأيته في الأم ، وقال ابن الأثير فيما بلغه عن هشام : وقال الإسماعيلي : إن أبا خالد رفعه وإن ابن مبارك ويحيى بن سعيد وابن أبي عدي [ ص: 199 ] ويزيد بن زريع وهشاما وجريرا وغيرهم رواه موقوفا على ابن مسعود ، ورواه البرقاني موقوفا على شرط البخاري . وزاد { من تمر ماله } ، والإسناد والحكم على طريقة المحدثين شرط في مثل هذا الموضع للوقف وتقديمه على رواية الرفع . أما على طريقة الفقهاء : فينبغي الحكم للرفع ، وأن أبا خالد وهو سليمان بن حبان الأحمر ; لأنه احتج به الشيخان ، ومن رفع معه زيادة على من وقف ، والمخالف في هذه المسألة يحكم بصحة مثل ذلك . فقد تلخصت روايات حديث المصراة من طريق أبي هريرة وابن عمر وعمرو بن عوف المزني جد كثير بن عبد الله رضي الله عنهم ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأنس بن مالك وابن مسعود رضي الله عنهم ، ( وأصحها ) : رواية أبي هريرة رضي الله عنه ورواية رجل من الصحابة سندها جيد ، ورواية ابن مسعود على طريقة المحدثين ضعيفة في رفعها ، ويجب على طريقة كثير من الفقهاء التمسك بها وترجيح الحكم بالمرفوع ، ولا أرى التمسك بمثل هذا المصنف في مثل هذا الموضع مع قوة الظن بالوقف لرجحان رواته كثرة وجلالة . نعم ذكر الماوردي : أن الشافعي رواه عن يحيى بن سعيد عن التيمي ، ولم أقف عليه في كلام الشافعي ، فإن صح ذلك وكان الرفع فيه محققا تعين الحكم بصحته ، وقد ذكر الإسماعيلي عن يحيى بن سعيد أنه ممن رواه موقوفا ، فإن صح ما ذكره الماوردي فيكون عنه روايتان ، والله أعلم .

( أما اللغة ) فقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تصروا " فهو بضم التاء المثناة من فوق وفتح الصاد ، وبعد الراء المشددة واو ، وفتح لام الإبل على مثال تركوا ، قال القاضي عياض : كذا صحيح الرواية من صرى إذا جمع مثقل ومخفف ، وهو تفسير مالك له ، والكافة من أهل اللغة والفقه وبعض الرواة تحذف واو الجمع وتضم لام الإبل على ما لم يسم فاعله ، [ ص: 200 ] وبعضهم يقول : يصروا بفتح الياء وضم الصاد وإثبات واو الجمع ونصب لام الإبل وخطأ القاضي هذين الوجهين ، وقال : إنهما لا يصحان إلا على تفسير من فسر بالربط والشد من صر يصر .

وقال فيه : المصرورة ، وهو تفسير الشافعي لهذه اللفظة ، كأنه يحبسه بربط أخلافها وشدها لذلك ، وخطأ ابن عبد البر الوجه الأخير وجعله وهما ، محتجا بأنه لو كان كذلك لكانت مصرورة . قال : وهذا لا يجوز عندهم .

ولم يذكر ابن عبد البر الوجه الثاني ، وهو مثل الوجه الأخير ، وقيده الفارقي تلميذ المصنف بالوجه الثاني وابن معن شارح المهذب بالوجه الثالث ، وكلاهما خطأ ، والفارقي أقل عذرا ; لأن الواو ثابتة في جميع ما وقفت عليه من كتب الحديث ونسخ المهذب .

قال الخطابي : اختلف أهل العلم واللغة في المصراة ومن أين أخذت واشتقت ؟ فقال الشافعي رضي الله عنه : التصرية : أن تربط أخلاف الناقة والشاة وتترك من الحلب اليومين والثلاثة ، حتى يجتمع لها لبن فيراه مشتريها كثيرا فيزيد في ثمنها ، فإذا تركت بعد تلك الحلبة حلبة أو اثنتين عرف : أن ذلك ليس بلبنها ، قال أبو عبيد : المصراة الناقة أو البقرة أو الشاة التي قد صري اللبن في ضرعها يعني حقن فيه أياما فلم يحلب ، وأصل التصرية : حبس الماء وجمعه ، يقال منه صريت الماء ، ويقال إنما سميت المصراة ; لأنها مياه اجتمعت .

قال أبو عبيد : ولو كان من الربط لكان مصرورة أو مصررة ، قال الخطابي : كأنه يريد به الرد على الشافعي ، قال الخطابي : قول أبي عبيد حسن . وقول الشافعي صحيح . والعرب تصر ضروع الحلوبات إذا أرسلتها تسرح ويسمون ذلك الربط صرارا ، فإذا راحت حلت تلك الأصرة وحلبت ، واستدل لصحة قول الشافعي بقول العرب " العبد لا يحسن الكر والفر ، وإنما يحسن الحلب والصر " ويقول متمم بن نويرة :

فقلت لقومي هذه صدقاتكم مصررة أخلافها لم تجدد

[ ص: 201 ] قال : ويحتمل أن أصل المصراة مصررة ، أبدلت إحدى الراءين ياء ، وقال الأزهري في كلامه على مختصر المزني : جائز أن تكون سميت مصراة من صر أخلافها كما قال الشافعي رحمه الله ، وجائز أن تكون سميت مصراة من الصري ، وهو الجمع ، يقال : صريت الماء في الحوض إذا جمعته ، ويقال كذلك : الماء صرى ، وقال عبيد :

يا رب ماء صرى وردته     سبيله خائف حدث
،

ومن جعله من الصر قال : كانت المصراة في الأصل مصرورة فاجتمعت ثلاث راءات فقلبت إحداها ياء كما قالوا : " تظننت من الظن " ، وكما قال العجاج :

يمضي الباز إذ البازي كسر

هذا كلام الأزهري رحمه الله ، وكلام الشافعي رحمه الله المذكور هو في مختصر المزني ، وقال النووي : رحمه الله : وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنهما قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش والتصرية } .

قال : وهذا يدل لرواية الجمهور يعني للضبط في الرواية كما تقدم ، ( وأما ) الاشتقاق والمعنى المختلف فيه بين الشافعي وغيره فليس فيه تعرض له ; لأنه يصح ذلك مع إبدال الراء ياء ، على أنه ليس في كلام الشافعي رحمه الله تصريح بأن ذلك مأخوذ من الصر ، وإنما مقصوده ومدلول كلامه : أنه فسر التصرية بالأمور المذكورة في كلامه من الربط والترك من الحلب حتى يجتمع اللبن ، والشك : أن ذلك فيه معنى الربط والجمع معا ، فيحتمل أن تكون التسمية بذلك لأجل الجمع ، وذكر الربط ; لأنه المعتاد عند العرب على ما تقدم من كلام الخطابي ; ولأنه سبب في احتباس اللبن . وإذا كان كذلك فليس في كلام الشافعي مخالفة لغيره إلا زيادة تبين ما كانت العرب تفعله من ربط أخلاف الناقة والشاة ، ويحتمل أن يكون تسميتها بذلك لما اشتملت عليه من الصر والربط ، وحينئذ تتحقق المخالفة ، فالأقرب : أن الشافعي إنما أراد المعنى الأول ، وقد قال أبو حاتم السجستاني : الشافعي أعلم باللغة منا ، نقله عنه الثعلبي في تفسير سورة النساء .

[ ص: 202 ] وروينا عن عبد الملك بن هشام قال : قول الشافعي حجة في اللغة ، قال الربيع : ابن هشام بمصر كالأصمعي بالعراق ، وقال أبو عبيد : الشافعي ممن يؤخذ عنه اللغة أو من أهل اللغة الشك من ابن أبي حاتم . وقال المازني : الشافعي عندنا حجة في النحو ، وقال أبو الوليد بن الجارود : إن للشافعي لغة جيدة يحتج بها كما يحتج بالبطن من العرب ، وقال ثعلب : إن الشافعي رحمه الله من بيت اللغة يجب أن يؤخذ عنه ، وقال أيوب بن سويد : خذوا عن الشافعي اللغة ، وقال ثعلب أيضا : إنما يؤخذ الشافعي باللغة ; لأنه من أهلها ، وإنما ذكرت هذه الأقوال كلها ليتبين قدر الشافعي عند أئمة اللغة ، وقد وقع في كلامه رحمه الله : أن التصرية أن يربط أخلاف الناقة والشاة ، وأخلاف جمع خلف بكسر الخاء المعجمة وسكون اللام ، قال ابن قتيبة : الخلف لكل ذات خف ، والطي للسباع وذوات الحافر وجمعه أطياء ، والضرع لكل ذات ظلف ، قال : وقد يجعل الضرع أيضا لذوات الخف . والخف لذوات الظلف ، والثدي للمرأة ، ( قلت ) : فإطلاق الشافعي أخلاف الناقة والشاة ، إما أن يكون على هذا القول وإما أن يكون من باب التغليب غلبنا الناقة على الشاة ، والله أعلم .

وفي التصرية لغة التصوية بدل الراء واو ، قال الهروي : التصوية والتصرية واحد ، وهو أن تصرى الشاة أي تحفل ، قال يوسف بن إسماعيل بن عبد الجبار بن أبي الحجاج المقدسي فيما علقه من كتاب التنبيه على تصحيف أبي عبيد الهروي في كتاب الغريبين تخريج ابن ناصر ، قال الحافظ : هكذا رأيته في عدة نسخ : يصر الشاة بغير ياء ، والصواب : أن يصري بإثبات الياء بعد الراء من حديث الناقة .

( فأما ) قوله : أن يصر فمعناه أن يشد ، وذلك يجوز ، ولم ينه عنه النبي صلى الله عليه وسلم ( قلت ) ولم أره في الغريبين إلا بالراء والياء كما نقلته ، فلعل النسخ التي وقعت لابن ناصر كانت مصحفة ، ولو كان الأمر على ما وقع له من النسخ لكان ذلك قريبا من المعنى المنسوب للشافعي ، وقد تقدم الكلام فيه .

[ ص: 203 ] وما اعترض به من أن النهي لم يرد عن الصر ، فجوابه : أن المراد أن يكون ذلك لأجل البيع على وجه الغش والخديعة ، كما دلت عليه رواية المزني المتقدمة ، وكلا الأمرين الصر والتصرية حرام ، إذا قصد به ذلك ، وجائز إذا لم يقصد به ، ولم يترتب عليه خديعة ولا ضرر بالحيوان ، لكن الحكم المذكور من الرد وثبوت الخيار إنما يكون في حالة يحصل فيها اجتماع اللبن لا في الصر المجرد لفهم المعنى ، والله أعلم .

واللقحة بكسر اللام وفتحها والكسر أفصح ، وجمعها لقح مثل : قربة وقرب وهي الناقة القريبة العهد بالولادة نحو شهرين أو ثلاثة ، والمحفلة هي التي حفل اللبن في ضرعها وهي المصراة ، ( وقوله ) بخير النظرين هو إمساك المبيع أو يرده ، أيهما كان خيرا له فعله ( والحلاب ) : هو الإناء يملؤه قدر حلبة ناقة ، ويقال له : المحلب أيضا ، وبعضهم يطلق فيقول : الحلاب الإناء الذي يحلب فيه الألبان ويطلق على المحلوب ، وهو اللبن كالحراف لما يحترف . وقال أبو عبيدة : إنما يقال في اللبن الإحلابة ، والمشهور عند العلماء : أن المراد بالحلاب في الحديث وكذلك الحلبة في بعض روايات الحديث اللبن نفسه .

ومن الظاهرية من امتنع من ذلك ، ورأوا أن هذا من المجاز الذي لم يدل نص على إرادته ، وسيقع الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى في الفصل الثاني عند قول المصنف : بدل اللبن التمر والحنطة والطعام في بعض روايات الحديث .

وإن كان مطلقا فالمراد به التمر ، واستدلوا على ذلك بأمرين . ( أحدهما ) : أنه كان الغالب على أطعمتهم ( والثاني ) : لأن معظم روايات الأحاديث إنما جاءت " وصاعا من تمر " ، ويحتمل وجها ثالثا من الاستدلال ، وهو حمل المطلق على المقيد وليس من شرط ذلك أن يكون هو الغالب ، ولا أن يترجح روايته ، هذا ما في حديث الكتاب وطرقه من اللغة ، وتبويب المصنف المقصود به ذكر الأسباب المثبتة لخيار النقيصة ، ، وهو ما ثبتت بفوات أمر مظنون ينشأ فيه من تغرير فعلي كالتصرية ، أو نص عرفي كالعيب ، فإن العرف يقتضي السلامة ، أو التزام شرطي كشرط الكتابة ونحوه ، إذا خرج بخلافه ، [ ص: 204 ] وقد ضمن المصنف هذا الباب هذه الأقسام الثلاثة على هذا الترتيب ، وقدم التصرية ; لأنها المنصوص عليها ، وذكر الرد بالعيب بعد ذلك ، وقاسه عليها ، كما سيأتي في كلامه ، وقد أورد فيه حديثا نصا سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى ، ثم ذكر بعده خيار الخلف الذي يثبت بفوات الالتزام الشرطي ، وجعل مؤخرا عن الرد بالعيب ( إما ) : لأنه ورد فيه حديث أيضا أعني الرد بالعيب ، وإما ; لأن الرد بالعيب أكثر وقوعا ، وإن كانا جميعا ثبتا بالقياس على التصرية كما اقتضاه كلام المصنف ، ولولا التصرية ورد فيها النص لكان يقتضي : أن يقدم الالتزام الشرطي عليهما ; لأن الملتزم بالشرط أوكد من حيث المعنى من الملتزم بالعرف أو بقرينة الحال ، ولذلك قال الغزالي : إن الالتزام الشرطي هو الأصل وما عداه ملحق به ، يشير إلى هذا المعنى ، فكان ذلك كنص في فرع ليس فيه إلا أصل واحد ، فإنه يتبين بذلك حكم ذلك الأصل ، ويصح أن يقال : إن حكم الفرع مأخوذ من ذلك الأصل ، وإن كان منصوصا ، وهذا المعنى ذكره القاضي حسين في نص الشافعي على فرع يكون بهذه الصفة .

( وأما ) اقتصار المصنف في الترجمة على المصراة والرد بالعيب وسكوته على خيار الخلف ، وإن كان الخلف ليس بعيب ، ولكنه فوات فضيلة فلأجل استوائها في النقص فيه بأحدهما على الآخر ; ولأن التصرية والرد بالعيب فرعان لأصل بالمعنى الذي لحظه الغزالي كما تقدم ، فذكرهما في الترجمة منبه على أصلهما بطريق أولى ، ووضع المصنف هذا الباب ; لأنه فرع من الأبواب المتضمنة شروط العقد مطلقا في باب ما يجوز بيعه ، وشروطه في الربويات وبيع الثمار أخذ في أسباب الفسخ واستدراك ما يقع في البيع من العيب بالفسخ أو بالأرش .

وقول المصنف : " أو بقرة " ليتبين أن الحكم غير مقصور على الإبل والغنم اللذين ضمنهما الحديث الذي ذكره ، بل هو شامل إما بالقياس إذا اقتصر على الحديث الذي أورده المصنف ، وذلك من باب الأولى ; لأن لبن البقر أغزر وأكثر بيعا من لبن الإبل وإما بالنص ، فإن في الروايات الصحيحة التي تقدمت " من اشترى مصراة " ، وقال بعض شارحي التنبيه : إن ذلك للرد على الظاهريين الذين [ ص: 205 ] خصوا الحكم بالمنصوص عليه من الإبل والغنم ، وهذا الذي نقله عن الظاهريين نقله القاضي أبو الطيب وغيره من أصحابنا عن داود ، فصرح ابن المغلس وابن حزم الظاهريان بأن : شمول الحكم تمسك بالنص العام وهو قوله " من اشترى مصراة " ولم يحكيا في ذلك خلافا ، وهو اللائق بمذهبهم أخذا بعموم الخبر ، ولا يجب تقييد أحد الخبرين بالآخر ; لأن ذلك إنما يكون في المطلق ، والخبر ههنا عام لصيغة " من " . لكن يعرض ههنا بحثان . ( أحدهما ) : أن هذا الخبر الذي فيه " من اشترى مصراة " من رواية ابن سيرين عن أبي هريرة كما تقدم ، وقد تقدم من روايته أيضا " : من اشترى شاة مصراة " ، وهذه الرواية فيها زيادة ليست في الأولى ، وزيادة العدل مقبولة ، فيجب العمل بها وعدم القول بالعموم ، فإن الحديث واحد ومخرجه واحد .

ووجه إدراك الصواب في هذا البحث أنا نظرنا الرواية العامة المذكورة التي ليست فيها الزيادة ، وهي قوله " من اشترى مصراة " فوجدناها من رواية سفيان بن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين . وذلك في مسلم ، ومن رواية هشام بن حسان عن ابن سيرين ، وذلك في ابن ماجه بسند صحيح ، ومن رواية قرة بن خالد عن ابن سيرين ، وذلك في الترمذي بسند صحيح ، وعن رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة ، وذلك في الترمذي بسند صحيح ، ومن رواية موسى بن يسار عن أبي هريرة ، وذلك في النسائي ، ونظرنا الزيادة فوجدناها من طرق : ( منها ) عبد الوهاب عن أيوب ، وفيها " من اشترى من الغنم " ، وهذا اختلاف عن أيوب عن سفيان وعبد الوهاب ، والراوي عنهما شخص واحد ، وهو العدني .

( ومنها ) قرة عن ابن سيرين وفيها " من اشترى شاة مصراة " ، وهذا اختلاف عن قرة أيضا ، وكذلك موسى بن يسار واختلف عنه أيضا ، واختلف أيضا عن هشام بن حسان ، وكلا السندين إليه على شرط الصحيح ، فلما رأينا هذه الروايات والاختلاف نظرنا ما يقتضيه النظر في ذلك فقلنا : جميع أصحاب أبي هريرة الذين ذكرناهم ههنا اختلف عنهم في ذلك إلا محمد بن زياد والشعبي ، فإنه لم يختلف منهما فيما [ ص: 206 ] علمنا ، ولم يرد عنهما إلا الصيغة العامة ، وإلا ثابت مولى عبد الرحمن فلم يرد عنه إلا الطريق المثبتة الزيادة وهي قوله : " من اشترى غنما مصراة " فقد يقال : إن كل واحد من الشعبي ومحمد بن زياد أجل من ثابت مولى عبد الرحمن ، وسفيان بن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين أجل وأحفظ وأتقن ممن خالفه ، فتقدم رواية العموم لذلك .

وقد يقال : إن جانب الزيادة هنا ورد من طرق صحيحة ، واحتمال النقص في رواية المثبت المتقن أولى من احتمال الخطأ والوهم بالزيادة في حق الثقة ، والذي أقوله : إن الحكم بالخطأ على راوي الزيادة ههنا بعيد ، فالأقرب أن تجعل الروايتان ثابتتين ، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهما مرتين فرواهما أبو هريرة كذلك ، ويكون ذكر الغنم في إحدى الروايتين على سبيل المثال ، ولو كان الحكم مقصورا عليه لما ذكر في الإبل ، وقد صح في الإبل من حديث الأعرج عن أبي هريرة .

( والبحث الثاني ) : إذا ثبتت الروايتان عن كلام النبي صلى الله عليه وسلم فمفهوم الرواية التي فيها التقييد لم لا يخص به عموم الرواية الأخرى ، كما مثله في قوله { إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه } مع قوله " من مس فرجه " حيث خصوا عموم الثاني بمفهوم الأول ، فلا ينتقض بغير الإفضاء الذي هو المس بباطن الكف . وذلك ههنا ( إما ) من مفهوم الشرط لقوله : " من اشترى " ( وإما ) من مفهوم الصفة لقوله : { من اشترى من الغنم } وكلا المفهومين حجة عند كثير من العلماء ( منهم ) الشافعي ، والمفهوم يخص به العموم كما قلنا في المس ، ( والجواب ) عن هذا : أن جانب المفهوم ههنا ضعف بثبوت الحكم المذكور في الإبل صريحا بحديث الأعرج عن أبي هريرة ، ويفهم المعنى من ذلك بخلاف الأحاديث ، فإن مبناها على التعبد ، فهذان الأمران أضعفا اعتبار المفهوم من قوله : { من اشترى شاة } وقوله : { من اشترى من الغنم } والثاني وحده : يضعف اعتبار المفهوم من قوله { إذا اشترى أحدكم نعجة أو شاة } وأما الظاهرية فإنهم غير قائلين بالمفهوم ، فلا يرد عليهم ، ويحتجون بالعموم لثبوته على ما تقدم ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

[ ص: 207 ] وقول المصنف " ولم يعلم أنها مصراة " شرط لا بد منه على أصح الوجهين عند الجمهور ، منهم القاضي أبو الطيب ، وفيه قول آخر مشهور في المذهب : إن الخيار يثبت وإن كان المشتري عالما بالتصرية حين العقد ، ويعبر عن الوجهين : بأن هذا الخيار هل هو خيار عيب أو خيار ثابت بالشرع ؟ وبناهما الرافعي وغيره على أن الخيار هل يمتد ثلاثة أيام أو يكون على الفور ؟ ( فإن قلنا ) بالأول ثبت مع العلم ، وإلا فلا ، وسيأتي الوجهان في كونه على الفور أو إلى ثلاثة أيام في كلام المصنف إن شاء الله تعالى .

( والصحيح ) عند الرافعي ومن وافقه : أن ذلك على الفور ، فالبناء حينئذ متجه . ( والمختار ) : أن يمتد ثلاثة أيام كما سيأتي إن شاء الله تعالى تقريره ، والجمهور ههنا أن متى علم المشتري بالتصرية حالة العقد لا يثبت الخيار ، وأن ذلك خيار ثبت لأجل النقص . ومن العجب أن الظاهرية لم يثبتوا الخيار ههنا في حالة العلم ، ويحتاجون إلى دليل في ذلك بأن اللفظ متأول ، وما ادعينا نحن من ظهور المعنى وفهمه هم لا يعتبرونه .

وقوله " : فهو بالخيار . . . إلخ " هذا هو الحكم المقصود من هذا الفصل ، وممن قال به من الصحابة عبد الله بن مسعود وأبو هريرة من فتياه ، صح ذلك عنهما ولا مخالف لهما من الصحابة ، ونقل العبدري القول به أيضا عن ابن عباس وابن عمر وأنس .

وممن قال به من الفقهاء بعدهم الشافعي ومالك والليث وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وأبو يوسف وزفر ومسلم بن خالد الزنجي وأبو عبيد ، وجمهور أهل الحديث .

( واتفق ) جميع أصحابنا على ذلك تبعا لإمامهم ، وخالف في ذلك أبو حنيفة ومحمد ، ورويت رواية غريبة بذلك عن مالك ، ذكر العتبي من سماع أشهب عن مالك : أنه سئل عن قول رسول الله : صلى الله عليه وسلم { من ابتاع مصراة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر } فقال : سمعت ذلك وليس بالثابت ولا الموطأ عليه ، ولئن لم يكن ذلك إن له اللبن بما علف وضمن ( قيل ) له : نراك تضعف الحديث ( فقال ) : كل شيء يوضع موضعه وليس بالموطأ ولا الثابت وقد سمعته .

قال ابن عبد البر : [ ص: 208 ] هذه رواية الله أعلم بصحتها عن مالك وما رواها عنه إلا ثقة ، ولكنه عندي اختلاف من رأيه . ( قلت ) : وإن صحت هذه الرواية عن مالك فينبغي أن يؤول قوله " ليس بالثابت " على الحكم لا على الحديث ، فإنه صحيح عنده بلا إشكال ، وقد أودعه الموطأ المشهور عنه خلاف هذه الرواية ، فالقول بمقتضى الحديث .

وقال ابن القاسم : قلت لمالك : أتأخذ بهذا الحديث ؟ قال : نعم ، قال مالك : أو لأحد في هذا الحديث رأي ؟ قال ابن القاسم : وأنا أخذته ، إلا أن مالكا قال لي : أرى لأهل البلدان إذا أنزل بهم هذا أن يعطوا الصاع من عيشهم ، ( قال ) : وأهل مصر عيشهم الحنطة ، وقال ابن عبد البر في التمهيد : إن الصحيح عن مالك ما رواه ابن القاسم ، وإن رواية أشهب منكرة . والله أعلم .

أما الاستدلال فدليلنا في المسألة الأخبار المتقدمة وهي صريحة في المقصود ، والمعنى في ذلك صحيح مستقيم غير خارج عن الأصول ، على ما سنبين في أجوبة المخالفين إن شاء الله تعالى .

ومن القياس على ما لو باع طاحونة حبس ماؤها زمانا ثم أرسله حالة البيع ، فظن المشتري أنه أبدا كذلك ، ثم علم ، فإنا أجمعنا على ثبوت الخيار ، واعتمد المخالفون في الاعتذار عن الحديث أمورا ضعيفة ترجع إلى طريقتين : طريقة الرد وطريقة التأويل ، الأول : أن هذا خبر واحد مخالف لقياس من الأصول المعلومة ، وما كان كذلك لم يلزم العمل به ، أما كونه مخالفا لقياس الأصول المعلومة فمن وجوه . ( أحدها ) : أنه أوجب غرم اللبن مع إمكان رده . ( وثانيها ) : أنه أوجب غرم قيمته مع وجود مثله . ( وثالثها ) : أنه جعل القيمة تمرا ، ، وهي إنما تكون ذهبا أو ورقا . ( ورابعها ) : أنه جعلها مقدرة لا تزيد بزيادة اللبن ولا تنقص بنقصانه ، ومن حكم الضمان أن يختلف باختلاف المضمون في الزيادة والنقصان .

[ ص: 209 ] وخامسها ) : أن اللبن إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه وذلك يمنع الرد ، وإن كان اللبن حادثا بعد الشراء فقد حدث على ملك المشتري ، فلا يضمنه وإن كان مختلطا : فما كان موجودا منع الرد ، وما حدث لم يجب ضمانه . ( وسادسها ) : إثبات الخيار ثلاثا من غير شرط مخالف للأصول ، ، فإن الخيارات الثابتة بأصل الشرع من غير شرط لا تقدر بالثلاث . ( وسابعها ) : يلزم من العمل بظاهره الجمع بين الثمن والمثمن للبائع في بعض الصور ، وهو ما إذا كانت قيمة الشاة صاعا من تمر ، فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها .

( وثامنها ) : أنه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور ، وهو ما إذا اشترى شاة بصاع ، فإذا استرد معها صاعا من تمر فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن ، فيكون قد باع شاة وصاعا بصاع ، وذلك خلاف قاعدة الربا عندكم ، فإنكم تمنعون مثل ذلك . ( وتاسعها ) : أنه أثبت الرد من غير عيب ولا شرط ; لأن نقصان اللبن ليس بعيب ولا الرد به بدون التصرية . ( وعاشرها ) : أن اللبن كالحمل لا يأخذ قسطا من الثمن وإلا لجاز إفراده بالعقد كالثمن ، وإذا لم يأخذ قسطا من الثمن لا يضمن .

( وأما ) المقام الثاني : وهو أن ما كان من أخبار الآحاد مخالفا لقياس الأصول المعلومة لم يجب العمل به فلأن الأصول المعلومة مقطوع بها ، وخبر الواحد مظنون ، والمظنون لا يعارض المعلوم .

( العذر الثاني لكم ) : أن هذا الحديث من أخبار أبي هريرة ، وإنما يقبل من أخباره ما فيه ذكر الجنة والنار ، ( وأما ) في الأحكام فلا يقبل ، وتارة يقولون : إنه غير فقيه والحديث مخالف للقياس ، والصحابة ينقلون بالمعنى ، ولا ثقة برواية غير الفقيه .

( العذر الثالث ) : دعوى النسخ في هذا الحديث : أنه يجوز أن يكون ذلك حيث كانت العقوبة بالمال جائزة . [ ص: 210 ] العذر الرابع ) : أن هذا حديث مضطرب لما وقع الاختلاف في ألفاظه ، وهذه الأمور الأربعة لترك العمل به بالكلية . ( العذر الخامس ) : في مخالفتهم لظاهر الحديث بتأويله واستعماله ، وحمله على ما إذا اشتراها فشرط أنها تحلب خمسة أرطال مثلا وشرط الخيار ، فالشرط فاسد ، فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار مع العقد ، وإن لم يتفقا بطل ، ( وأما ) رد الصاع ، فلأنه كان قيمة اللبن في ذلك الوقت . والجواب في ذلك : ( أما ) الأول فبالظن في المقامين جميعا ، ( أما ) قولهم : إنه مخالف لقياس الأصول فمن الناس من فرق بين مخالفة الأصول ومخالفة قياس الأصول ، وخص الرد بخبر الواحد المخالف للأصول لا المخالف لقياس الأصول ، وهذا الخبر إنما يخالف قياس الأصول ، وقياس الأصول يترك بخبر الواحد ; لأنه أقوى منه ، ولهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه : إن القياس أن الأكل ناسيا يفطر ، ولكن ترك القياس بخبر أبي هريرة { أطعمه الله وسقاه } وقبل أبو حنيفة خبر أبي فزارة في جواز التوضؤ بالنبيذ ، وخبر زاذان في إبطال طهارة المصلي بالقهقهة مع أنهما إنما خالفا قياس الأصول ، ورد خبر التصرية وبيع العرية ; لأنهما خالفا أصول القياس عنده .

وصاحب هذه الطريقة ينازعه في ذلك ويقول : إن ذلك إنما هو مخالف لقياس الأصول كالأول ، ومن سلك هذه الطريقة يسلم : أن الحديث المذكور مخالف لقياس الأصول ( ومنهم ) من لا يسلم أن مخالفة الأصول أيضا قادحة ، ويقول : إن ما ورد النص به فهو أصل بذاته ، لا يعتبر فيه موافقة الأصول كالدية على العاقلة ، والغرة في الجنين وغير ذلك ، وليس إبطال أصل لمخالفته أصولا أخرى بأولى من إبطال تلك الأصول لمخالفتها ذلك الأصل .

( والصواب ) : العمل بها جميعا ، ويعتبر كل أصل بنفسه ، وصاحب هذه الطريقة يقول : إنه لا فرق بين مخالفة قياس الأصول ومخالفة الأصول ، وكلاهما لا يوجب الرد ، والأحاديث التي ذكروها في التصرية والقهقهة وغيرها سواء في ذلك ، مع أن خبر التصرية أصح .

[ ص: 211 ] واعلم ) أن الأصول المختلف في رد الخبر بها هي المستنبطة التي تكون في نفسها محتملة ، ( أما ) الأصول المقطوع بها فنص الكتاب والتواتر والإجماع أو الأصول التي في معناها كتحريم الضرب المستفاد من تحريم التأفيف ، فإذا ورد الخبر بخلافه رد ، ويعتقد أنه لم يصح ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول ما يخالف ذلك ، هكذا قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، فهذان جوابان إجماليان عن دعوى مخالفة الأصول ، ( ومنهم ) من سلك في الجواب عن ذلك طريق التفضيل ، ويتبين أن ذلك ليس مخالفا لقياس الأصول من الوجوه التي ذكروها ، بل في الأصول ما يشهد له ويعاضده . ( أما ) غرم القيمة مع إمكان الرد فإن رد اللبن في التصرية غير ممكن لوجهين . ( أحدهما ) : نقص قيمته وذهاب كثير من منافعه بطول المكث .

( والثاني ) : أن لبن التصرية قد خالطه ما حدث في الضرع بعده على ملك المشتري ، فلم يمكن رده مع الجهل بما خالطه ، ( وعن الثاني والثالث والرابع ) وهو غرامة القيمة مع وجود المثل ، وكونه تمرا وكونه مقدرا مع اختلاف قدره ، إن كان مجهول القدر مجهول الوصف جاز الرجوع فيه إلى بدل مقدر في الشرع ، من غير مثل ولا تقويم ، وقد وجد ذلك في مواضع ، ( منها ) : الحر يضمن بمائة من الإبل ، ( ومنها ) الجنين يضمن بالغرة . ويستوي فيه الذكر والأنثى ، ( ومنها ) المقدرات من جهة الشرع في الشجاج كالموضحة مع اختلافها بالصغر والكبر ، ( ومنها ) جزاء الصيد فليس من شرط الضمان أن يكون بالمثل أو القيمة من النقدين ، ولا من شرط المثلي أن يضمن بالمثل ، والعدول في الأمور التي لا تنضبط إلى شيء معدود ولا يختلف من محاسن الشرع قطعا للخصومة والتشاجر ، [ ص: 212 ] وهذه المصلحة تقدر على تلك القاعدة الكلية ، والتمر غالب أقواتهم كما قدرت الدية بالإبل ; لأنها غالب أموالهم .

( وعن الخامس ) وهو : إيجاب الرد مع ما حدث في يد المشتري من النقص من وجهين . ( أحدهما ) : أن النقص حادث في اللبن دون الشاة ، وهو إنما يرد الشاة دون اللبن ، ( والثاني ) : أن النقص الحادث الذي لا يتوصل إلى معرفة العيب إلا به لا يمنع من الرد ، كالذي يكون مأكوله في جوفه إذا كسر .

( وعن السادس ) وهو : أن خيار الثلاث من غير شرطه مخالف للأصول ، بأن الشيء إنما يكون مخالفا لغيره إذا كان مماثلا له ، وخولف في حكمه ، وههنا الصورة انفردت عن غيرها بأن الغالب أن هذه المدة هي التي يتبين بها لبن الحلبة المجتمع بأصل الخلقة ، واللبن المجتمع بالتدليس ، فهي مدة يتوقف على العلم عليها غالبا ، بخلاف خيار الرؤية والعيب ، فإنه يحصل من غير هذه المدة فيهما ، وخيار المجلس ليس لاستعلام عيب ، وعلى أن لنا في تقييد خيار المصراة خلافا سيأتي إن شاء الله تعالى ، وإنما جاء السؤال والجواب على ظاهر الحديث والوجه الموافق له ، ( وعن السابع ) وهو : لزوم الجمع بين البدل والمبدل من ثلاثة أوجه . ( أحدها ) : أن صاع التمر بدل عن اللبن لا عن الشاة ، فلا يلزم الجمع بين العوض والمعوض . ( الثاني ) : أن الحديث وارد على العادة والعادة أن لا تباع شاة بصاع ( الثالث ) : أن ذلك غير ممتنع كما إذا باع سلعة بعبد ، قيمة كل منهما ألف ، ثم زاد العبد وبلغت قيمته ألفين ، ووجد المشتري بالسلعة عيبا فيردها ، ويسترجع العبد وقيمته ألفان ، وذلك قيمة الثمن والمثمن ، ( وعن الثامن ) وهو : مخالفته لقاعدة الربا أن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسوخ ولا في ضمان المتلفات ، ( وعن التاسع ) وهو : إثبات الرد من غير عيب ولا شرط أن الخيار ثبت بالتدليس ، كما لو باع رحى دائرة بماء قد جمعه لها ، وكما لو سود الشعر ، فإن العيب إنما أثبت الخيار ; لأنه ينقص الثمن به ، والتدليس كذلك ، ونحن نقول : إن هذا التدليس نفسه عيب . [ ص: 213 ]

( وعن العاشر ) وهو : كون اللبن غير مقابل بقسط من الثمن بالمبيع ، وأن اللبن يقابله قسط من الثمن كاللبن في الإناء ، ( وقولهم ) : لو قابله قسط من الثمن لجاز إفراده بالعقد ، منقوض بأساس الدار ، وأطراف الخشب التي في البناء ، لا يجوز إفرادها ، ويدخل فيه على سبيل البيع ويقابلها قسط من الثمن . ( وأما ) الحمل قلنا : فيه قولان ، فعلى قولنا بأنه لا يأخذ قسطا يفرق بينهما : بأن الحمل غير مقدور على استخراجه من الأم ، فهو بمنزلة اللحم المخلوق في الجوف بخلاف اللبن فإنه مقدور عليه ، فهذه الأجوبة دافعة لقولهم : إنه مخالف لقياس الأصول ، ولئن سلمنا مخالفته لذلك ، ( فالجواب ) : ما تقدم من أن المخالفة لا تضر لما تقدم ( وقولهم ) : إن تقديم خبر الواحد على الأصول المعلومة فيه تقديم المظنون على المقطوع ممنوع ، فإن تناول تلك الأصول لمحل خبر الواحد غير مقطوع به ، لجواز استثناء محل الخبر عن ذلك الأصل ، فإن تلك الأصول عامة ، والخبر خاص ، والمظنون يخصص المعلوم ، ( وأما العذر الثاني ) وهو كونه من رواية أبي هريرة ، فلولا ذكره في الكتب والاحتياج إلى الجواب ، لكنا نستحيي من ذكره ، ونجل أبا هريرة أن يتكلم بذلك على سبيل الحكاية ، أو نسمعه في أحد من الصحابة ، وأبو هريرة من ثقته وأمانته وحفظه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمحل المعلوم ، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يحببه الله وأمه إلى كل مؤمن ومؤمنة ، وروي عن عثمان أنه قال له حين روى لهم : " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " حفظ الله عليك دينك كما حفظت علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وفضائل أبي هريرة ومناقبه مشهورة ، والمخالفون في حكم هذه المسألة إنما يتعللون بظنهم أنه ليس بفقيه ، وهذا ليس بصحيح ، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمله على البحرين ، ولم يكن عمر رضي الله عنه ليولي غير فقيه ، وكان أبو هريرة على المدينة في خلافة معاوية . أترى كان يحكم بغير فقه ؟ . [ ص: 214 ] وقد نقلت عنه فتاوى .

وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان : " أن رجلا من مزينة طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ، فأتى ابن عباس يسأله وعنده أبو هريرة ، فقال ابن عباس : إحدى المعضلات يا أبا هريرة ، فقال أبو هريرة : واحدة تبينه أو ثلاث تحرمها ، فقال ابن عباس : زينتها يا أبا هريرة أو قال : نورتها أو كلمة تشبهها يعني أصاب " ففتياه بحضور ابن عباس ، وقول ابن عباس في ذلك دليل أيضا على فقهه .

ولو فرضنا وحاش لله أنه غير فقيه ، فاشتراط الفقه تحكم لا دليل عليه مع عدالة الراوي وضبطه وفهمه الذي يمنع من إحالة المعنى ، ثم إن المخالف قبل خبر أبي هريرة في مواضع من جملتها في النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ، ولم يرو هذا الحديث من طريق صحيحة غير طريق أبي هريرة ، وقد روي من جهة غيره بطريق ضعيفة ، فقبلوا خبره في ذلك ، وهو مخالف لعموم الكتاب قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } فأيهما أعظم ؟ مخالفته لعموم الكتاب ؟ أو مخالفته لقواعد متنازع في عمومها ؟ ومخالفته للقياس المتأخر عن الكتاب بمراتب ؟ . ثم إن حديث المصراة قد روي من غير طريق أبي هريرة كما تقدم ، ومن جملتها طريق عن ابن مسعود ، الإمام المجمع على فقهه وعلمه ، وإن كنا قد رجحنا فيما تقدم أنه موقوف على ابن مسعود ، كما هو في صحيح البخاري ، لكن طريق الرفع أيضا جيدة ، وعلى طريق كثير من الفقهاء غير المحدثين لا يبعد تصحيحها ، وقد روي رفعه من غير طريق الإسماعيلي المتقدمة ، ذكرها الماوردي عن أبي عثمان النهدي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه إذا صح فيها الرفع طريق قوية جدا ، هذا مع متابعة الروايات المتقدمة مع ملاحظة الوجوه المتقدمة المبينة : أن ذلك غير خارج عن القياس ، وإن لم يصح طريق الرفع في رواية فكونه من كلامه صحيح بلا إشكال ، وقول الصحابي عندهم حجة لا سيما ابن مسعود ، وطريق فقههم ترجع إليه ، فإن لم يكن ههنا حجة فلا أقل من أن يكون [ ص: 215 ] عاضدا لحديث أبي هريرة على زعمهم ، ( وأما ) نحن فلا نقول : إن الحديث يحتاج إلى شيء يعضده ، والله أعلم .

( وأما الاعتذار الثالث ) ، وهو دعوى النسخ ، فذلك من أضعف الاعتذارات ; لأنه دعوى نسخ بالاحتمال من غير دليل ، ( وأما الاعتذار الرابع ) بالاضطراب ، فإن الألفاظ المختلفة التي وردت منها ما سنده ضعيف فلا اعتبار به ، ومنها ما هو صحيح لا منافاة فيه ، والألفاظ التي صحت كلها لا تناقض فيها ، بل الجمع بينها ممكن ظاهرا .

( وأما الاعتذار الخامس ) واستعمالهم للحديث على وجه الاشتراط ، فذلك لا يصح لأربعة أوجه . ( أحدها ) : أن النهي عن التصرية وما ذكره معه يقتضي تعليق الحكم بالتصرية ، وما استعملوه عليه يقتضي تعليق الحكم بفساد الشرط ، فصار ذكر التصرية لغوا ، ( الثاني ) : أنه جعل الرد للمشتري وحده ، ولو كان لأجل الشرط لكان لهما ; لأن البيع حينئذ يكون فاسدا ، قاله الماوردي وغيره ، وفيه نظر ، فإنه إذا شرط في الشاة المبيعة أنها تحلب مقدارا فنقصت عنه ، فإنما يثبت الرد للمشتري لا للبائع ، وذلك على وجه سيأتي في كلام المصنف بصحة البيع .

( والشرط الثالث ) : أنه جعل الرضا موجبا للإمضاء ، والسخط موجبا للفسخ والرد ، ولم يجعله متعلقا بإسقاط الشرط . ( والرابع ) : أنه أوجب فيه رد صاع من تمر ، وإسقاط الشرط لا يوجب رد صاع من تمر ، قال هذه الأوجه الماوردي رحمه الله ، وأقواها الوجه الأول لكماله هو دون غيره ، فقد بان بحمد الله تعالى صحة ما ذهبنا إليه وجمهور العلماء ، واندفع ما تعلق به الخصم في دفع ذلك . ( وأما ) أن القياس هل هو معاضد للحديث فجماعة يدعون ذلك ويثبتونه بما علم في الأجوبة المتقدمة ، وبعضهم يأبى ذلك ، ويروي الاستناد في ذلك إلى الحديث ، ويجعل الأجوبة المذكورة لدفع الاعتراضات فقط .

قال الغزالي في المآخذ : والإنصاف أولى من العناد ، ونحن نعلم أن حديث المصراة لو لم يرد لكنا لا نثبت الخيار : وقد سلم ما وجد حالة العقد ، ولم يتخلف إلا منفعة في المستقبل ، فالاعتماد على الحديث ، وهو صريح لا تأويل له ، والله أعلم .

[ ص: 216 ] وقول الغزالي هذا أنه لو لم يرد الحديث ، لكنا لا نثبت الخيار لا يضرنا فيما قدمناه ، فإنا قد لا نسلم ذلك وندعي ثبوت الخيار كالعيب والشرط ، ولو سلمنا فحيث ورد الحديث ، فهو العمدة مع فهم المعنى فيه ، وأن ما اشتمل عليه من الأحكام من محاسن الشرع كما تقدمت الإشارة إليه ، وهذا الذي قاله الغزالي خالف فيه الإمام ، فإنه قال في النهاية : إن قاعدة مذهب الشافعي تدل على أن ثبوت الخيار جار على القياس ، وذكر بيان ذلك بمسألة تجعيد الشعر وتلطيخ الثوب بالمداد وشبه ذلك عند الكلام في هذه المسائل إن شاء الله تعالى ، ( أما ) رد الصاع فالإمام موافق على أنه خارج على القياس ، والله تعالى أعلم .

وقد ذكر القاضي أبو الطيب عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال في كتابه المسمى بالحجر والتفليس : ناظرت محمد بن الحسن ، واحتججت عليه بحديث أبي هريرة " وأيما رجل مات أو أفلس " فقال : هذا من أخبار أبي هريرة ، فكان ما هرب إليه أشد عليه مما هرب منه ، قال القاضي أبو الطيب : فإن قال يعني الذي رده : إنه يكثر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ( فالجواب ) : أن ذلك يوجب قبوله ويؤكد لزومه ، وغزارة حفظه وسعة علمه ، وكان الشيخ أبو محمد البافي يجيب عنه بقول البحتري :

إذا محاسني اللاتي أدل بها صارت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر

وأبو هريرة نفسه قد أجاب عن إكثار الحديث ، فإنه كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالحفظ .

( فرع في علة هذا الخيار ) وجهان ( أحدهما ) : التدليس الصادر من البائع ( والثاني ) : الضرر الحاصل للمشتري بإخلاف ما وطن نفسه عليه ، ويظهر أثر الوجهين فيما لو تحفلت بنفسها أو صرها غيره بغير إذنه ، ( والأصح ) عند صاحب التهذيب : ثبوته ، وبه قطع القاضي حسين وقطع الغزالي بخلافه في الوجهين فيما إذا تحفلت [ ص: 217 ] بنفسها ، وفي الوسيط حكى الوجهين ، وجعل الأولى عدم الثبوت ، وحقيقة الوجهين ترجع إلى إلحاق خيار التصرية بخيار العيب أو بخيار الخلف المجمع على كل منهما ، ( فرجح ) البغوي والقاضي حسين الأول ، وهو مقتضى كلام الماوردي والعراقيين ، ممن صرحوا أن التصرية عيب ، وكذلك يقتضيه كلام الشافعي في الأم ، فإنه قال : " فإذا حلبها ثم أراد ردها بعيب التصرية " وقال أيضا : " فإن رضي الذي ابتاع المصراة أن يمسكها بعيب التصرية " ورجح الغزالي الثاني ، وتبعه عبد الغفار القزويني في حاويه . ( والمراد ) بتحفلها بنفسها : أن يترك صاحبها حلبها أياما من غير شد لا عن قصد بل نسيانا أو لشغل عرض ، فإن اللبن يجتمع في ضرعها إذا لم يصل إليها ولدها أو يتفق شد أخلافها لحركتها بنفسها لا بصنع آدمي ، ولو ترك صاحبها حلبها ثلاثة أيام من غير شد الأخلاف لقصد غزارة اللبن ليراه المشتري ، فهو في معنى الشد بلا خلاف .

قال ابن الرفعة : ولهذا قال بعض الشارحين : وليس شد الأخلاف شرطا ، بل هو الغالب ، وإنما المعتبر أن يترك حلبها قصدا ، ( قلت ) : وذاك داخل تحت الحديث على تفسير أبي عبيد ، وقد تقدم التوفيق بينه وبين تفسير الشافعي والتي صراها أجنبي بغير إذن البائع لا شك أنها داخلة تحت اسم المصراة عليها ، وإن لم يصح إطلاق اسم المصراة عليها ، فهي كهي في المعنى من جهة الظن الناشئ من رؤيتها ، فظن السلامة في غيرها . وأما إلحاق ذلك بالخلف جعل ذلك كالالتزام فبعيد ، ولو صراها لا لأجل الخديعة ثم نسيها فقد حكى الشيخ أبو الفتح القشيري المشهور بابن دقيق العيد عن أصحابنا فيه خلافا ، ولم أر ذلك في كلامهم صريحا ، لكنه يتخرج على أنا هل ننظر إلى أن المأخذ التدليس ؟ أو ظن المشتري ؟ . فعلى الأول لا يثبت الخيار ; لأنه لم يقصد الخديعة والتدليس ، وعلى الثاني يثبت لحصول الظن .

( والراجح ) من ذلك : ثبوت الخيار [ ص: 218 ] نظرا إلى المعنى ، وفوات ما ظنه المشتري ، ولو شد أخلافها قصدا لصيانة لبنها عن ولدها فقط ، قال ابن الرفعة : فهو بلا شك كما لو تحفلت بنفسها . ( قلت ) : وهي كالمسألة التي حكاها الشيخ أبو الفتح عن أصحابنا لكن في تلك الزيادة النسيان ، وهو ليس بشرط ، فإنه إذا كان القصد صحيحا لم يحصل تدليس وخديعة ، وليس لقائل أن يقول : إن التدليس حاصل بعدم تبيينه وقت البيع ، وهو عالم به ; لأن هذا المعنى حاصل فيما إذا تحفلت بنفسها وباعها وهو عالم بالحال لا فرق بين المسألتين ، وابن الرفعة سقط عليه من كلام القشيري ، فنقل المسألة عنه أنه صراها لأجل الخديعة ثم نسيها ، ثم اعترض بأنه ينبغي أن يكون هذه من صور الوفاق .

وهذا الاعتراض لو كان الأمر كما نقله صحيح ; لأنه حينئذ يكون قد حصل التدليس والظن ولا يفيد توسط النسيان ، فإذن المسألة ذكرها ابن الرفعة وخرجها على ما إذا تحفلت بنفسها ، والمسألة التي نقلها القشيري واحدة ، والمسألة التي نقلها ابن الرفعة عن القشيري بحسب النسخة التي وقعت له غلطا مسألة أخرى ينبغي الجزم بالخيار فيها ، فلذلك ذكرت المسألتين وأوجبت التنبيه عليهما ; لأنهما ليسا في كلام الأصحاب صريحا فيما علمت ، والله أعلم .

( فرع ) لا خلاف أن فعل التصرية بهذا القصد حرام لما فيها من الغش والخديعة ، والخداع محرم في الشريعة قطعا ، وهل يختص إثم فاعله بحالة علم التحريم أو لا ؟ لأنه ظاهر المفسدة ، قال ابن الرفعة : يشبه أن يكون الكلام فيه كما في النجش ، ( قلت ) : والذي اختاره الرافعي في النجش تخصيص معصية الناجش ممن عرف التحريم بعموم أو خصوص ، وحكى البيهقي من كلام الشافعي ما يقتضي ذلك ، والله أعلم ، وهذا الذي ذكرت من نفي الخلاف في تحريم التصرية ، هو المشهور بين أصحابنا وغيرهم ، وحكى الشيخ أبو حامد صاحب العدة عن أبي حنيفة جوازه ، ولو حصلت التصرية لغير قصد البيع فقد رأيت في كلام بعض الأصحاب أنها حرام ، وينبغي أن يحمل ذلك على ما إذا كانت [ ص: 219 ] تضر بالحيوان ، أما إذا لم يحصل ضرر بالحيوان ولا يلتبس على أحد ، فلا معنى للتحريم ، وبعض الأصحاب الذي أشرت إليه هو صاحب التتمة ، فإنه لما تكلم في إلباس العبد ثوب الكتان فرق بينه وبين التصرية ، قال : إلباس ثوب الكتان من غير قصد البيع ممنوع بالشرع ، بل للسيد أن يلبس عبده كل ما يحل لبسه ، وأما ترك حلب اللبن من غير قصد اللبن ممنوع عنه بالشرع ، ويجب حمل ذلك على ما ذكرته .

التالي السابق


الخدمات العلمية