صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإذا خرج منه ما يشبه المني والمذي ولم يتميز له فقد اختلف أصحابنا فيه ، فمنهم من قال : يجب عليه الوضوء منه ، لأن وجوب غسل الأعضاء مستيقن ، وما زاد على أعضاء الوضوء مشكوك في وجوبه ، فلا يجب بالشك . ومنهم من قال : هو مخير بين أن يجعله منيا فيجب منه الغسل ، وبين أن يجعله مذيا فيجب الوضوء وغسل الثوب منه ; لأنه يحتمل الأمرين ، احتمالا واحدا ، وقال الشيخ الإمام أحسن الله توفيقه : وعندي أنه يجب أن يتوضأ مرتبا ويغسل سائر بدنه ويغسل الثوب منه ، لأنا إن جعلناه منيا أوجبنا عليه غسل ما زاد على أعضاء الوضوء بالشك ، والأصل عدمه ، وإن جعلناه مذيا أوجبنا عليه غسل الثوب والترتيب في الوضوء بالشك ، والأصل عدمه . وليس أحد الأصلين أولى من الآخر ، ولا سبيل إلى إسقاط حكمهما لأن الذمة قد اشتغلت بفرض الطهارة والصلاة . والتخيير لا يجوز ; لأنه إذا جعله مذيا لم يأمن أن يكون منيا فلم يغتسل له ، وإن جعله منيا لم يأمن أن يكون مذيا ولم يغسل الثوب منه ، ولم يرتب الوضوء منه ، وأحب أن يجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين ) .


( الشرح ) إذا خرج منه ما يشبه المني والمذي واشتبه عليه ففيه أربعة أوجه ( أحدها ) يجب الوضوء مرتبا ولا يجب غيره ، وقد ذكر المصنف دليله . قال الرافعي وغيره : فعلى هذا لو اغتسل كان كمحدث اغتسل .

( والثاني ) يجب غسل أعضاء الوضوء فقط ولا يجب ترتيبها ، بل يغسلها كيف شاء ; لأن المتحقق هو وجوبها ، والترتيب مشكوك فيه ، وهذا الوجه مشهور في طريقة الخراسانيين ، وصححه الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الفروق ، وهذا عجب منه ، بل هذا الوجه غلط صريح لا شك فيه ، فإنه إذا لم يرتب فصلاته باطلة قطعا ; لأنه لم يأت بموجب واحد منهما ، وقد حكى القاضي حسين هذا الوجه في آخر صفة الوضوء عن شيخه القفال ، وأنه رجع [ ص: 166 ] عنه فقال : قال القفال : الترتيب واجب إلا في ثلاث صور ( إحداها ) هذه ( والثانية ) إذا أولج الخنثى ذكره في دبر رجل فعلى المولج فيه الوضوء بلا ترتيب .

( والثالثة ) مسألة ابن الحداد التي قدمناها في فصل ترتيب الوضوء . قال القاضي : ثم إن القفال رجع عن المسألتين الأولتين ، وقال : الأصل شغل ذمته بالصلاة ولا تبرأ بهذا ، فصرح القاضي برجوع القفال وأن هذا الوجه خطأ ، وكأن من حكاه خفي عليه رجوع القفال عنه .

( والوجه الثالث ) أنه مخير بين التزام حكم المني أو المذي ، وهذا هو المشهور في المذهب ، وبه قال أكثر أصحابنا المتقدمين ، وقطع به جمهور المصنفين وصححه الروياني والرافعي وجماعة من فضلاء المتأخرين ; لأنه إذا أتى بمقتضى أحدهما برئ منه يقينا ، والأصل براءته من الآخر ولا معارض لهذا الأصل بخلاف من نسي صلاة من صلاتين ; لأن ذمته اشتغلت بهما جميعا ، والأصل بقاء كل واحد منهما .

( والوجه الرابع ) يلزمه مقتضى المني والمذي جميعا ; وهو الذي اختاره المصنف وجعله احتمالا لنفسه ، وهو وجه حكاه الرافعي ، وهو الذي يظهر رجحانه لأن ذمته اشتغلت بطهارة ، ولا يستبيح الصلاة إلا بطهارة متيقنة أو مظنونة أو مستصحبة ، ولا يحصل ذلك إلا بفعل مقتضاهما جميعا . قال أصحابنا : فإن قلنا بالتخيير فتوضأ وصلى في ثوب آخر صحت صلاته ، وإن صلى في الثوب الذي فيه البلل ولم يغسله لم تصح صلاته ; لأنه إما جنب ، وإما حامل نجاسة . وإن اغتسل وصلى في هذا الثوب قبل غسله صحت صلاته لاحتمال أنه مني ; قال الرافعي : ويجري هذا الخلاف فيما لو أولج خنثى مشكل في دبر رجل فهما على تقدير ذكورة الخنثى جنبان وإلا فمحدثان ، فالجنابة محتملة ; فإذا توضأ وجب الترتيب ، وفيه الوجه السابق وهو غلط ، والله أعلم .

( فرع ) قد يعترض على المصنف في قوله : على اختياره يلزمه غسل الثوب مع الوضوء والغسل فيقال : الصواب أنه لا يجب غسل الثوب ; لأن الأصل طهارته ، فلا يجب غسله بالشك ، بخلاف الجمع بين الوضوء والغسل ، [ ص: 167 ] لأن ذمته اشتغلت بأحدهما ولا تصح الصلاة إلا به ، ولا نعلم أنه أتى به إلا إذا جمع بينهما فوجب الجمع ، وهذا اعتراض حسن . فإن قيل : ما الفرق - على قول الجمهور - بين هذه المسألة وما إذا ملك إناء من ذهب وفضة مختلطين وزنه ألف : ستمائة من أحدهما وأربعمائة من الآخر ، ولا يعرف أيهما أكثر ، فإن المذهب وجوب الاحتياط بأن يزكي ستمائة من كل واحد ، ولم يلزمه الجمهور هنا الاحتياط ; فالجواب أن في مسألة الإناء يمكنه معرفة اليقين بسبكه ولا يمكنه اليقين بعينه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية