قال المصنف رحمه الله تعالى باب في صفة الغسل ( إذا أراد الرجل أن يغتسل من الجنابة فإنه يسمي الله تعالى وينوي الغسل من الجنابة أو الغسل لاستباحة أمر لا يستباح إلا بالغسل ، كقراءة القرآن والجلوس في المسجد ، ويغسل كفيه ثلاثا قبل أن يدخلهما في الإناء ، ثم يغسل ما على فرجه من الأذى ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يدخل أصابعه العشر في الماء فيغرف غرفة يخلل بها أصول شعره من رأسه ولحيته ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات ثم يفيض الماء على سائر جسده ويمر يديه على ما قدر عليه من بدنه ، ثم يتحول من مكانه ثم يغسل قدميه ، لأن nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة وميمونة رضي الله عنهما وصفتا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك . والواجب من ذلك ثلاثة أشياء : النية ، وإزالة النجاسة - إن كانت - وإفاضة الماء على البشرة الظاهرة وما عليها من الشعر حتى يصل الماء إلى ما تحته ، وما زاد على ذلك سنة لما روى nindex.php?page=showalam&ids=67جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=16691تذاكرنا الغسل من الجنابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما أنا فيكفيني أن أصب على رأسي ثلاثا ثم أفيض بعد ذلك على سائر جسدي } " ) .
( الشرح ) حديثا nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة وميمونة صحيحان رواهما nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم في صحيحيهما مفرقين ، وفيهما مخالفة يسيرة في الألفاظ ، وحديث nindex.php?page=showalam&ids=67جبير بن مطعم رواه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل في مسنده بإسناده الصحيح كما ذكره المصنف ، ورواه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم في صحيحيهما مختصرا ، ولفظه فيهما : " أما أنا فأفيض على رأسي ثلاث مرات " فعلى هذا لا دلالة فيه لمسألة الكتاب ، وعلى رواية nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد وجه الدلالة ظاهر ، وقد جاء في الصحيحين في حديثي nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة وميمونة الاقتصار على إفاضة الماء ، وقوله : يحثي ثلاث حثيات صحيح ، يقال : حثيت أحثي حثيا وحثيات وحثوت أحثو حثوا وحثوات لغتان فصحيحتان ، وسائر جسده أي باقيه nindex.php?page=showalam&ids=67وجبير بن مطعم بضم الميم وكسر العين وهذا [ ص: 210 ] لا خلاف فيه ، وإنما نبهت على كسر العين مع أنه ظاهر لأني رأيت بعض من جمع في ألفاظ الفقه قال يقال : بفتح العين وهذا غلط لا شك فيه ولا خلاف وكنية جبير أبو محمد ، أسلم سنة سبع وقيل ثمان ، وكان من سادات قريش وحلمائهم ، توفي بالمدينة سنة أربع وخمسين رضي الله عنه .
( أما أحكام الفصل ) فإذا أراد الرجل الغسل من الجنابة سمى الله تعالى ، وصفة التسمية كما تقدم في الوضوء : بسم الله ، فإذا زاد الرحمن الرحيم جاز ولا يقصد بها القرآن ، وهذا الذي ذكرناه من استحباب التسمية هو المذهب الصحيح ; وبه قطع الجمهور وفيه وجه حكاه القاضي nindex.php?page=showalam&ids=14958حسين والمتولي وغيرهما أنه لا يستحب التسمية للجنب ، وهذا ضعيف لأن التسمية ذكر ولا يكون قرآنا إلا بالقصد كما سبق في الباب الماضي ولم يذكر nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في المختصر والأم والبويطي التسمية ، وكذا لم يذكرها المصنف في التنبيه والغزالي في كتبه ، فيحتمل أنهم استغنوا بقولهم : يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، لأن وضوء الصلاة يسمى في أوله .
وينوي الغسل من الجنابة أو الغسل لاستباحة ما لا يستباح إلا بالغسل كالصلاة والقراءة والمكث في المسجد ، فإن نوى لما يباح بلا غسل فإن كان مما لا يندب له الغسل ، كلبس ثوب ونحوه لم يصح غسله عن الجنابة ، وإن كان مما يستحب له الغسل كالمرور في المسجد والوقوف بعرفة ونحوه ففيه الوجهان في نظيره في الوضوء ، أصحهما : لا يجزئه ، وقد تقدم في باب نية الوضوء بيان صفة النية ومحلها وهو القلب ، ووقتها وهو أن واجبه عند أول إفاضة الماء على جزء من بدنه ويستحب استدامتها إلى الفراغ ويستحب أن يبتدئ بالنية مع التسمية . فإن لم ينو إلا عند إفاضة الماء أجزأه ولا يثاب على ما قبلها من التسمية وغيرها على المذهب . وقال الماوردي : في ثوابه وجهان ، وقد سبق مثله في الوضوء . ولو نوت المغتسلة من انقطاع الحيض استباحة وطء الزوج ففي صحة غسلها ثلاثة أوجه سبقت في باب نية الوضوء . وأما صفة الغسل فهي كما ذكرها المصنف باتفاق الأصحاب ، ودليلها الحديث ، إلا أن أصحابنا الخراسانيين نقلوا nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي قولين في هذا الوضوء : [ ص: 211 ] أحدهما ) أنه يكمله كله بغسل الرجلين ، وهذا هو الأصح وبه قطع العراقيون .
( والثاني ) أنه يؤخر غسل الرجلين ، ونقله بعضهم عن نصه في nindex.php?page=showalam&ids=13920البويطي ، وكذا رأيته أنا في nindex.php?page=showalam&ids=13920البويطي صريحا ، وهذان القولان إنما هما في الأفضل ، وإلا فكيف فعل حصل الوضوء . وقد ثبت الأمران في الصحيح من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي روايات nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة { nindex.php?page=hadith&LINKID=7370أنه صلى الله عليه وسلم توضأ وضوءه للصلاة ثم أفاض الماء عليه } " وظاهر هذا أنه أكمل الوضوء بغسل الرجلين . وفي أكثر روايات ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم " { nindex.php?page=hadith&LINKID=16994توضأ ثم أفاض الماء عليه ، ثم تنحى ، فغسل رجليه } " وفي رواية لها nindex.php?page=showalam&ids=12070للبخاري : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=17030توضأ وضوءه للصلاة غير قدميه ثم أفاض عليه الماء ثم نحى قدميه فغسلهما } " . وهذه الرواية صريحة في تأخير القدمين ، فعلى القول الضعيف تتأول روايات nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة وأكثر روايات ميمونة ، على أن المراد بوضوء الصلاة أكثره ، وهو ما سوى الرجلين كما بينته ميمونة ، فهذه الرواية صريحة والباقي محتمل للتأويل فيجمع بينهما بما ذكرناه ، وعلى القول الصحيح المشهور يجمع بينهما بأن الغالب من أحواله ، والعادة المعروفة له صلى الله عليه وسلم إكمال الوضوء ، وبين الجواز في بعض الأوقات بتأخير القدمين كما توضأ ثلاثا ثلاثا في معظم الأوقات وبين الجواز بمرة مرة في بعضها .
وعلى هذا إنما غسل القدمين بعد الفراغ للتنظيف . قال أصحابنا : وسواء قدم الوضوء كله أو بعضه ، أو أخره أو فعله في أثناء الغسل فهو محصل سنة الغسل ، ولكن الأفضل تقديمه ، ولم يذكر الجمهور ماذا ينوي بهذا الوضوء قال الشيخ nindex.php?page=showalam&ids=12795أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله : لم أجد في مختصر ولا مبسوط تعرضا لكيفية نية هذا الوضوء إلا لمحمد بن عقيل الشهرزوري فقال : يتوضأ بنية الغسل ، قال : إن كان جنبا من غير حدث أصغر فهو كما قال ، وإن كان جنبا محدثا كما هو الغالب فينبغي أن ينوي بوضوئه هذا رفع الحدث الأصغر ، لأنا إن أوجبنا الجمع بين الوضوء والغسل فظاهر لأنه لا يشرع وضوءان ، فيكون هذا هو الواجب ، وإن قلنا بالتداخل كان فيه خروج من الخلاف . [ ص: 212 ] وقال الرافعي رحمه الله في مسألة من أحدث وأجنب : وإن قلنا يجب الوضوء وجب إفراده بالنية لأنه عبادة مستقلة . وإن قلنا لا يجب لم يحتج إلى إفراده بالنية ، وذكر صاحب البيان هذا الذي ذكره الرافعي احتمالا ولا خلاف أنه لا يشرع وضوءان ، سواء كان جنبا محدثا أم جنبا فقط وسيأتي إيضاحه بدليله في مسألة من أحدث وأجنب إن شاء الله تعالى .
وأما قول المصنف : يغسل ما على فرجه من الأذى ، فكذا قاله nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي والأصحاب ومرادهم ما على القبل والدبر من نجاسة ، كأثر الاستنجاء وغيره وما على القبل من مني ورطوبة فرج وغير ذلك ، فالقذر يتناول الطاهر والنجس . ونقل الرافعي عن ابن كج وغيره وجهين في أن المراد بالأذى النجاسة أم المستقذر كالمني ؟ ؟ والصحيح إرادتهما جميعا . وأما قول المصنف الواجب منه ثلاثة أشياء أحدها إزالة النجاسة ، فكذا قاله شيخه القاضي nindex.php?page=showalam&ids=11872أبو الطيب والماوردي في الإقناع والمحاملي في المقنع وابن الصباغ والجرجاني في التحرير والشاشي والشيخ نصر وآخرون ، ولم يعد الأكثرون إزالة النجاسة من واجبات الغسل ، وأنكر الرافعي وغيره جعلها من واجب الغسل .
قالوا : لأن الوضوء والغسل سواء ، ولم يعد أحد إزالة النجاسة من أركان الوضوء ، لكن يقال إزالة النجاسة شرط لصحة الوضوء والغسل ، وشرط الشيء لا يعد منه كالطهارة وستر العورة لا يعدان من أركان الصلاة . قلت : وكلام المصنف وموافقيه صحيح ، ومرادهم لا يصح الغسل ، وتباح الصلاة به إلا بهذه الثلاثة ، وهكذا يقال في الوضوء . وأما النية وإفاضة الماء على جميع البدن شعره وبشره فواجبان بلا خلاف ، وسواء كان الشعر الذي على البشرة خفيفا أو كثيفا يجب إيصال الماء إلى جميعه وجميع البشرة تحته بلا خلاف ، بخلاف الكثير في الوضوء ، لأن الوضوء متكرر فيشق غسل بشرة الكثيف ، ولهذا وجب غسل جميع البدن في الجنابة دون الحدث الأصغر ، ودليل وجوب إيصال الماء إلى الشعر والبشرة جميعا ما سبق من حديث nindex.php?page=showalam&ids=67جبير بن مطعم وغيره في صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 213 ] وهو بيان للطهارة المأمور بها في قوله تعالى : " { وإن كنتم جنبا فاطهروا } . وأما حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( { nindex.php?page=hadith&LINKID=16643تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة } ) فرواه أبو داود ، ولكنه ضعيف ضعفه nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=17336ويحيى بن معين nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري وأبو داود وغيرهم .
ويروى عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، ويروى موقوفا على nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، وكذا المروي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=36038من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا من النار } " . قال nindex.php?page=showalam&ids=8علي : فمن ثم عاديت رأسي ، وكان يجز شعره ، فهو ضعيف أيضا والله أعلم . وأما قوله : " وما زاد على ذلك سنة " صحيح ، وقد ترك من السنن أشياء . منها استصحاب النية إلى آخر الغسل ، والابتداء بالأيامن ، فيغسل شقه الأيمن ثم الأيسر . وهذا متفق على استحبابه ، وكذا الابتداء بأعلى البدن ، وأن يقول بعد فراغه : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . صرح به المحاملي في اللباب والجرجاني والروياني في الحلية وآخرون ، واستقبال القبلة وتكرار الغسل ثلاثا ثلاثا ، وتقدم في الوضوء مستحبات كثيرة أكثرها يدخل هنا ، كترك الاستعانة والتنشيف وغير ذلك . وأما موالاة الغسل فالمذهب أنها سنة ; وقد تقدم بيانها في باب صفة الوضوء .
وأما تجديد الغسل ففيه وجهان الصحيح : لا يستحب . والثاني : يستحب ، وسبق بيانه واضحا في الزوائد في آخر صفة الوضوء .
( فرع ) المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور أنه يستحب إفاضة الماء على جميع البدن ثلاث مرات ، وممن صرح به المحاملي في المقنع واللباب ، وسليم الرازي في الكفاية ، والقاضي nindex.php?page=showalam&ids=14958حسين والفوراني وإمام الحرمين والمصنف في التنبيه والغزالي في البسيط والوسيط والوجيز والمتولي والشيخ nindex.php?page=showalam&ids=14922نصر في كتبه الانتخاب ، والتهذيب ، والكافي والروياني في الحلية ، والشاشي في العمدة ، والرافعي في كتابيه ، وآخرون يطول ذكرهم ، [ ص: 214 ] وقد سبق في باب صفة الوضوء في مسألة تكرار مسح الرأس أن الشيخ nindex.php?page=showalam&ids=11976أبا حامد نقل أن مذهب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أن تكرار الغسل مسنون . وقال إمام الحرمين : فحوى كلام الأصحاب استحباب إيصال الماء إلى كل موضع ثلاثا ، فإنا إذا رأينا ذلك في الوضوء ومبناه على التخفيف فالغسل أولى . وكذا قال الغزالي في البسيط والمتولي وآخرون : إذا استحب التكرار في الوضوء فالغسل أولى .
قال المتولي والرافعي وآخرون : فإن كان ينغمس في نهر انغمس ثلاث مرات ، وشذ الماوردي عن الأصحاب فقال في باب المياه : لا يستحب تكرار الغسل ثلاثا ، وهذا الذي انفرد به ضعيف متروك ، وإنما بسطت هذا الكلام لأني رأيت جماعة من أهل زماننا ينكرون على صاحبي التنبيه والوسيط استحبابهما التكرار في الغسل ، ويعدونه شذوذا منهما ، وهذا من الغباوة الظاهرة ، ومكابرة الحس ، والنقول المتظاهرة .
( فرع ) مذهبنا أن دلك الأعضاء في الغسل وفي الوضوء سنة ليس بواجب فلو أفاض الماء عليه فوصل به ولم يمسه بيديه أو انغمس في ماء كثير أو وقف تحت ميزاب أو تحت المطر ناويا فوصل شعره وبشره أجزأه وضوءه وغسله ، وبه قال العلماء كافة إلا nindex.php?page=showalam&ids=0016867مالكا nindex.php?page=showalam&ids=15215والمزني فإنهما شرطاه في صحة الغسل والوضوء . واحتج لهما بأن الغسل هو إمرار اليد ، ولا يقال لواقف في المطر اغتسل . قال nindex.php?page=showalam&ids=15215المزني : ولأن التيمم يشترط فيه إمرار اليد فكذا هنا . واحتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=showalam&ids=1584لأبي ذر رضي الله عنه : { nindex.php?page=hadith&LINKID=23575فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك } " ولم يأمره بزيادة ، وهو حديث صحيح سبق ذكره وسنوضحه في موضعه في التيمم إن شاء الله تعالى ، وله نظائر كثيرة من الحديث ، ولأنه غسل فلا يجب إمرار اليد فيه كغسل الإناء من ولوغ الكلب . وقولهم : " لا تسمى الإفاضة غسلا " ممنوع ، وقول nindex.php?page=showalam&ids=15215المزني ممنوع أيضا ، فإن المذهب الصحيح أن إمرار اليد لا يشترط في التيمم ، كما سنوضحه في موضعه إن شاء الله تعالى