صفحة جزء
( 64 ) مسألة قال : ( وإذا كان معه في السفر إناءان ; نجس وطاهر ، واشتبها عليه ، أراقهما ، ويتيمم ) . إنما خص حالة السفر بهذه المسألة ; لأنها الحالة التي يجوز التيمم فيها ، ويعدم فيها الماء غالبا ، وأراد : إذا لم يجد ماء غير الإناءين المشتبهين ، فإنه متى وجد ماء طهورا غيرهما توضأ به ، ولم يجز التحري ولا التيمم ، بغير خلاف . ولا تخلو الآنية المشتبهة من حالين : أحدهما أن لا يزيد عدد الطاهر على النجس ، فلا خلاف في المذهب أنه لا يجوز التحري فيهما .

والثاني أن يكثر عدد الطاهرات ; فذهب أبو علي النجاد ، من أصحابنا ، إلى جواز التحري فيها . وهو [ ص: 50 ] مذهب أبي حنيفة ; لأن الظاهر إصابة الطاهر ; ولأن جهة الإباحة قد ترجحت ، فجاز التحري ، كما لو اشتبهت عليه أخته في نساء مصر . ، وظاهر كلام أحمد : أنه لا يجوز التحري فيها بحال .

وهو قول أكثر أصحابه . وهو قول المزني ، وأبي ثور . وقال الشافعي : يتحرى ويتوضأ بالأغلب عنده في الحالين ; لأنه شرط للصلاة ، فجاز التحري من أجله ، كما لو اشتبهت القبلة ; ولأن الطهارة تؤدى باليقين تارة ، وبالظن أخرى ، ولهذا جاز التوضؤ بالماء القليل المتغير ، الذي لا يعلم سبب تغيره . وقال ابن الماجشون : يتوضأ من كل واحد منهما وضوءا ، ويصلي به .

وبه قال محمد بن مسلمة ، إلا أنه قال : يغسل ما أصابه من الأول ; لأنه أمكنه أداء فرضه بيقين ، فلزمه ، كما لو اشتبه طاهر بطهور ، وكما لو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها ، أو اشتبهت عليه الثياب . ولنا أنه اشتبه المباح بالمحظور ، فيما لا تبيحه الضرورة ، فلم يجز التحري ، كما لو استوى العدد عند أبي حنيفة ، وكما لو كان أحدهما بولا عند الشافعي ، فإنه قد سلمه ، واعتذر أصحابه بأنه لا أصل له في الطهارة . قلنا : وهذا الماء قد زال عنه أصل الطهارة ، وصار نجسا ، فلم يبق للأصل الزائل أثر ، على أن البول قد كان ماء ، فله أصل في الطهارة ، كهذا الماء النجس .

وقولهم : إذا كثر الطاهر ترجحت الإباحة . يبطل بما إذا اشتبهت أخته في مائة أو ميتة بمذكيات ، فإنه لا يجوز التحري ، وإن كثر المباح ، وأما إذا اشتبهت في نساء مصر ، فإنه يشق اجتنابهن جميعا ، ولذلك يجوز له النكاح من غير تحر . وأما القبلة فيباح تركها للضرورة ، كحالة الخوف ، ويجوز أيضا في السفر في صلاة النافلة ; ولأن قبلته ما يتوجه إليه بظنه ، ولو بان له يقين الخطأ لم يلزمه الإعادة ، بخلاف مسألتنا .

وأما المتغير من غير سبب يعلمه ، فيجوز الوضوء به استنادا إلى أصل الطهارة ، وإن غلب على ظنه نجاسته ، ولا يحتاج إلى تحر . وفي مسألتنا عارض يقين الطهارة يقين النجاسة ، فلم يبق له حكم ، ولهذا لا يجوز استعماله من غير تحر . ثم يبطل قياسهم بما إذا كان أحدهما بولا والآخر ماء . ويدل على صحة ما قلنا : أنه لو توضأ من أحد الإناءين وصلى ، ثم غلب على ظنه في الصلاة الثانية أن الآخر هو الطاهر ، فتوضأ به وصلى من غير غسل أثر الأول ، فقد علمنا أنه صلى بالنجاسة يقينا ، وإن غسل أثر الأول ففيه حرج ونقض لاجتهاده باجتهاده ، ونعلم أن إحدى الصلاتين باطلة ، لا بعينها فيلزمه إعادتهما ، فإن توضأ من الأول فقد توضأ بما يعتقده نجسا .

وما قاله ابن الماجشون فباطل ; فإنه يفضي إلى تنجيس نفسه يقينا ، وبطلان صلاته إجماعا . وما قاله ابن مسلمة ففيه حرج ، ويبطل بالقبلة ; فإنه لا يلزمه أن يصلي إلى أربع جهات . ( 65 ) فصل : وهل يجوز له التيمم قبل إراقتهما ؟ على روايتين : إحداهما ، لا يجوز ; لأن معه ماء طاهرا بيقين ، فلم يجز له التيمم مع وجوده . فإن خلطهما ، أو أراقهما ، جاز له التيمم ; لأنه لم يبق معه ماء طاهر .

والثانية يجوز التيمم قبل ذلك . اختاره أبو بكر . وهو الصحيح ; لأنه غير قادر على استعمال الطاهر ، أشبه ما لو كان في بئر لا يمكنه استقاؤه ، وإن احتاج إليهما للشرب لم تجب إراقتهما ، بغير خلاف ; فإنه يجوز له التيمم لو كانا طاهرين ، فمع الاشتباه أولى . وإذا أراد الشرب تحرى وشرب من الطاهر عنده ; لأنها ضرورة تبيح الشرب من النجس إذا لم يجد غيره ، فمن الذي يظن طهارته أولى .

وإن لم يغلب على ظنه طهارة أحدهما شرب من أحدهما ، وصار هذا كما [ ص: 51 ] لو اشتبهت ميتة بمذكاة في حال الاضطرار ، ولم يجد غيرها ، فإنه إذا جاز استعمال النجس فاستعمال ما يظن طهارته أولى . وإذا شرب من أحدهما ، أو أكل من المشتبهات ، ثم وجد ماء طهورا ، فهل يلزمه غسل فيه ؟ يحتمل وجهين : أحدهما لا يلزمه ; لأن الأصل طهارة فيه ، فلا تزول عن ذلك بالشك .

والثاني يلزمه ; لأنه محل منع استعماله من أجل النجاسة ، فلزمه غسل أثره ، كالمتيقن . ( 66 ) فصل : وإذا علم عين النجس استحب إراقته ليزيل الشك عن نفسه . وإن احتاج إلى الشرب شرب من الطاهر ، ويتيمم إذا لم يجد غير النجس .

وإن خاف العطش في ثاني الحال ، فقال القاضي : يتوضأ بالماء الطاهر ويحبس النجس ; لأنه غير محتاج إلى شربه في الحال ، فلم يجز التيمم مع وجوده . والصحيح إن شاء الله ، أنه يحبس الطاهر ويتيمم ; لأن وجود النجس كعدمه عند الحاجة إلى الشرب في الحال ، وكذلك في المآل ، وخوف العطش في إباحة التيمم كحقيقته .

التالي السابق


الخدمات العلمية