5- الخبرات في التربية الحديثة المعاصرة
من الموضوعية أن نقول: إن التربية الغربية المعاصرة هـي تربية غنية بالخبرات الكونية والاجتماعية، وأن القائمين على هـذه التربية، يعون تمام الوعي أثر الخبرة المربية في تكوين شخصية الفرد المتعلم، كما يعون تمام الوعي أثر عوامل التطور في الخبرة المشار إليها، ولذلك يراعون مبدأ الاستمرارية تمام المراعاة. وليس أدل على ذلك من الجهود التي تدور حاليا لتطوير نظم التربية استعدادا لإيجاد مواطن القرن الواحد والعشرين, الذي سيكون طابعه العام أنه مواطن عالمي يعيش في " قرية الكرة الأرضية " .
والإنسان الغربي – بشكل عام – يبدأ منذ الطفولة في التدريب على التفاعل مع الكون المحيط، وعلى تحليل الخبرات الكونية والاجتماعية، وتطويرها.
كذلك يتم التركيز على الخبرة وإعطائها حقها في المناهج التعليمية، بما يتناسب والدور الذي تلعبه في حياة الفرد ونمو قدراته ومهاراته. ويكفي أن نشير الى ما أعطاه مرب واحد هـو " جون ديوي " من عناية بالخبرة في مجال البحث النظري، والتطبيق العلمي.
والغربي ما زال منذ أيام النهضة الأولى، يعطي الخبرة ما تستحقه من الجهد والتكاليف، التي تتمثل في الرحلات والاكتشافات الجغرافية، في البر والبحر، ثم أخيرا في الرحلات والاكتشافات الفضائية، ومثلها الخبرات الاجتماعية وما يصاحبها من بحث في الثقافات المختلفة، والآثار العمرانية والمخطوطات والمواد الأثرية المختلفة. [ ص: 99 ]
والمدرسة الغربية –ابتداء من المرحلة الابتدائية، ورياض الأطفال، الى الدراسات الجامعية- ما زالت تعطي الخبرة المربية أهمية خاصة، في برامجها وأنشطتها، وتوفر لها شروطها وبيئتها، التي تساعد على نضوجها.
ولكن مشكلة التربية الغربية هـي في ميدان الخبرة الدينية، التي ما زالت الى حد كبير مختلفة في مستواها في ميادين الخبرة الكونية والاجتماعية، وتنعكس آثار هـذا التخلف في الأزمة الروحية، التي يعاني منها الإنسان العربي بشكل عام. صحيح أن دراسات مقارنة الأديان قد أخذت تتطور هـناك بشكل يرقى عن مثيلاتها في الأقطار الأخرى. ولكن المشكلة في هـذه الدراسات تتمثل في أمرين:
الأول: في أشخاص القائمين عليها، والباحثين الذين ينتمون في الغالب للكنيسة، والمؤسسات والكليات الدينية المسيحية واليهودية. وهؤلاء يكونون مزودين بوجهة نظر مسبقة عن غير دياناتهم – خاصة الإسلام – تحول دون البحث الموضوعي، والرؤية الصحيحة، فتجعل الخبرات المتكونة خبرات غير مربية ولا نافعة. كذلك يتصف هـؤلاء الباحثون بصفة التحزب المسبق، أي أنهم من النوع الذي يسمى في الغرب Apologists والذي يجعل منهجه في البحث انتقاء حسنات ما عنده، والتركيز على سلبيات ما عند غيره، فهم يشبهون العناصر الموجودة في مؤسساتنا التربوية من " الآبائيين " الذين يركزون على الإشادة بتراث الآباء وتملقهم، وتتبع عورات المعاصرين وتجريحهم.
صحيح أن هـناك نفر قليل حاول التزام العدل والموضوعية، ولكنه نفر قليل لا يسمح له أن ينتشر ويشيع. هـناك بحث موضوعي ظهر في الانسكلوبيديا البريطانية Encyclopedia Britanica طبعة عام 1910/ 1911 تحت عنوان: الكتب المقدس The Bibli - ولقد كان كاتبه عميقا في بحثه، واضح الدلالة في تنقيبه ومقارناته التاريخية، بحيث انتهى إلى نتائج تفيد الإنسان الغربي في مراجعة معتقداته بشكل جذري. ولكن البحث حذف من الطبعات التالية حتى الوقت الحاضر. [ ص: 100 ]
والأمر الثاني: في مشكلة الدراسات الغربية المقارنة، هـو أن منهج البحث الذي يدور حول هـذا الموضوع إنما يعالج الموضوعات الدينية باعتبارها دراسات إستراتيجية، رافدة للسياسات الخارجية، لا باعتبارها خبرات إنسانية رفيعة، مهمتها الإسهام في رفع مستوى الإنسان في هـذا المجال الهام.
ومن هـنا تأتي الأهمية القصوى للرأي الذي أشار إليه " أبراهام ماسلو " وهو أن تنتقل الدراسات الدينية إلى ميدان العلم، بدل أن تبقى حبيسة في دوائر الكهانة والكهان يتعيشون بها، أو في دوائر السياسة والساسة ليستغلونها في سياساتهم. وهذا الدور يحتاج الى مفكر من نوع جديد، نوع يرقى الى المستوى العالمي، في تفكيره ومعالجته، وطرحه للموضوعات والخبرات الدينية، دون حساسية سلبية، مما تركته خبرات قرون النهضة، بسبب ما كان من صراع بين ممثلي الفهم الديني الخاطئ، وممثلي العلم المنشق عن الدين. [ ص: 101 ]
التالي
السابق