الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مقومات الشخصية المسلمة أو الإنسان الصالح

الدكتور / ماجد عرسان الكيلاني

ثالثا: تنمية الخبرات الدينية والاجتماعية والكونية

عند الفرد

1- معنى الخبرة وأهميتها

الخبرة عمل وأثر، ويمكن أن نفهم معنى الخبرة إذا لاحظنا أنها تتألف من عنصرين اثنين:

الأول: هـو العمل الذي يقوم به الإنسان.

الثاني: هـو الأثر الذي يتركه العمل في نفس الإنسان.

ولا بد من تكامل العنصرين وحصولهما، فإذا حصل الأول، ولم يحصل الثاني لا تسمى خبرة. ولذلك فجميع الأعمال التي نمارسها، والأحداث التي تمر بنا، ولا تترك آثارا في أنفسنا، وفي حياتنا الاجتماعية، وفي مستقبل الأجيال، بعدنا، لا تسمى خبرات. ومثل ذلك الآثار –المؤلمة أو السارة– التي تصيبنا دون عمل مسبق ومخطط له، هـي أيضا ليست خبرات لأننا لا نفهم مقدماتها، ولا نستطيع التعرف على ما يتلوها.

والخبرة لها مكونان: عنصر عقلي، وعنصر مادي. والفصل بين العنصرين يشوه معنى الخبرة، ويعطل فاعليتها وأثرها. ولذلك كانت الخبرة الحقيقية، هـي التي تشمل على العلم والعمل سواء. أما نظم التربية التي تقتصر على تقديم المعلومات النظرية، أو الإعداد العقلي، دون أن تصحبها [ ص: 88 ] تطبيقات وممارسات يشترك فيها العقل والجسد سواء، أو دون أن تعمل على الإعداد العقلي والجسدي، فإن مثل هـذه النظم لا تقدم خبرات مربية نافعة.

ومثلها كذلك الطرق والأساليب التربوية، التي تعتمد على تلقين المعلومات والتعليمات الصارمة، التي تمنع الحركة وتعيق النشاط، وتكرس الانضباط والسكون، وتعاقب الطالب إذا قام بأيه حركة، تحت ستار الزعم أن هـذه فوضى ولهو يفقدان الخبرات العقلية، ولعلنا نلاحظ الثمرات الشاذة لهذه الصرامة وما يصيبها من توترات نفسية وعصبية عند المعلم والطالب سواء. [1] والطالب حين يتعلم درسا، فإنه يستعمل عقله، ويوظف حواسه – خاصة العين والأذن – كبوابات للمعرفة التي يتلقاها، ولأخذ ما في الكتاب أو ما على الخارطة والسبورة، وشرح المعلم.. كما أنه يستعمل فاهه ويديه وأعضاء الصوت فيه للكتابة والكلام.. واستعمال هـذه الأدوات بشكل جيد، يتطلب تدريبا خاصا، وهو جزء من الخبرة المربية، لأنه يسهل التعلم ويعمقه. أما حين لا يحسن المتعلم استعمال قدراته العقلية، ولا يجيد توظيف حواسه – خاصة العين والأنف – فإن العمل لا يولد أثرا، وبالتالي لا تكون الخبرة مربية نافعة. إن البصر الذي لا يترتب على رؤيته أثر مستقبلي لهو شبيه بالعمى.. والسماع الذي لا ينتج له أثر.. هـو شبيه بالصمم.. والتفكير الذي لا يفرز فهما وفكرا لهما آثار مستقبلية، هـو قرين البله والغباء، لذلك وصف القرآن الذين لا ينتج لتفكيرهم ونظرهم وسمعهم آثار مستقبلية، تؤثر في حياة صاحبها، وفيمن حوله، بالحيوانية والبلاهة والغباء والغفلة ( لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هـم أضل أولئك هـم الغافلون ) (الأعراف: 179) .

والواقع أن الخبرة المربية النافعة، مهما كانت متواضعة، فإنها تسهم في [ ص: 89 ] توليد أفكار وتطبيقات جديدة، تشارك في تقدم الحياة وحل المشكلات. ولكن الأفكار النظرية وحدها – كما قلنا – لا تسهم في جلاء الحقائق، ولا تكشف القوانين والنظريات، وإنما تتحول الى مجرد كلام منمق، يجعل التفكير معه مستحيلا، وغير ضروري، وهذا ينقلنا الى البحث في سمات الخبرة المربية النافعة.

والتفكير هـو أول سمات الخبرة المربية؛ لأنه إدراك للعلاقات بين العمل الذي تقوم به –أي العنصر الأول للخبرة- وبين الأثر الناتج عن هـذا العمل – أي العنصر الثاني للخبرة -.. وسمة التفكير الصحيح أن يكون تفكيرا مستمرا، جار لا يكمل ولا يتوقف، وإنما هـو في تساؤل دائم، عما يجب القيام به من أعمال، وما سينتج عن هـذه الأعمال من آثار. أما أن نملأ رءوسنا بالأفكار، وكأنها أشرطة تسجيل، أو قصاصات ورقية مما تم عمله وإنجازه، فهذا ليس بتفكير ولا بخبرة. فالتفكير إذن هـو استمرارية الاهتمام بمصائرنا، خلال مجرى الأحداث والمواقف المبهمة والمعقدة في نهر التطور الكبير للحياة، ويكون دور التفكير خلال ذلك المساعدة في الوصول الى حل للمشكلات القائمة، أو تقديم مشروع للانتفاع بالأحداث الجارية، وتجنب السلبيات المرافقة، أو تقديم مشروع للانتفاع بالإحداث الجارية، وتجنب السلبيات المرافقة، على أساس الخبرات التي تقدمت قبله. [2] فالتفكير إذن، عملية تعرف وبحث في الأشياء، وتنقيب في مكونات الحياة الجارية، بغية الوقوف على القوانين التي أحدثتها والاستفادة منها في التطبيقات والمواقف المختلفة.

وهو كما قلنا-: عملية ربط مستمر بين العمل الذي نحاول القيام به، وبين النتائج التي ستترتب على هـذا العمل. وأساس ذلك أننا لا نعيش في عالم تم اكتشافه وانتهت وقائع الخلود فيه، وإنما نحن نعيش في عالم مازال يكتشف وتجري فيه الأحداث. فالخالق سبحانه يصف نفسه أنه ( كل يوم هـو في شأن ) (الرحمن:29) .

والسمة الثانية للخبرة المربية: أنها تظل حية في الخبرات التي تتلوها، [ ص: 90 ] فيكون لها تأثير مستقبلي على الخبرات التابعة، وهو ما نسميه: استمرارية الخبرة، مثل خبرة نيوتن حين جلوسه تحت شجرة التفاح – إن صحت الرواية -، فحين سقطت علية التفاحة راح يتفكر في أسباب سقوطها، ولماذا سقطت الى الأسفل، ولم تنطلق الى الأعلى، أو الجوانب، ثم انتهى به التفكير الى اكتشاف قوانين الجاذبية. فهذه خبرة ما زالت تفرز خبرات أخرى، وهي ما زالت تتفاعل مع المسيرة البشرية فتؤثر فيها وتتأثر بها. ألا كم عدد أولئك الذين سقطت عليهم ثمرة من الثمرات، فلم يزد عن مسحها بيده أو بثوبه، ثم لاكها وأودعها في زاوية من زوايا أحشائه، دون أن يسهم بشيء في ميدان المعرفة والعلم.

والخبرات التي ظلت حية في الخبرات التي تتلوها، وظلت تؤثر في المستقبل، هـي كثيرة ومتعددة. بل إن هـناك خبرات أكبر من خبرة نيوتن – مثل خبرات الرسل والأنبياء- التي ما زالت تتفاعل مع الخبرات المتتابعة، وتؤثر في مستقبل البشرية كلها.. وهناك خبرات لعلماء ومفكرين وفقهاء، لها آثارها المستقبلية بدرجات متفاوتة، ولكن يوجد الى جانب ذلك كله، أكداس من الخبرات الفكرية والاجتماعية، التي لا تزيد عن كونها أحمال تثقل كاهل الإنسان، وتشكل بعض الأغلال والاصار التي تكبل تفكيره ونشاطه.

ومثل هـذه الخبرات المكبلة للتفكير، وإن صنفت في قوائم التراث العلمي والاجتماعي هـي خبرات غير مربية، وهي معينة لنمو خبرات أخرى؛ لأنها تنتج نقصا بالحساسية والاستجابة، أو تكون مخدرة غير حافزة للنظر في العلاقات القائمة بين العمل والنتائج، أو تكون خبرات غير مترابطة ومجزأة [3]

والذين تحشى رءوسهم بهذه الخبرات لا يستفيدون من الأحداث والظواهر والوقائع والأفكار التي يمرون بها، والى أمثالهم يشير القران الكريم عند قوله تعالى: [ ص: 91 ]

( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) (يوسف: 105) .

( وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ) (يونس: 92) .

والتربية التقليدية تكرس الخبرات غير المربية؛ لأنها تصنع من رءوس المتعلمين مستودعا لقصاصات الماضي، ولا تسهم في تنمية خبرات جديدة، لها أثرها في الواقع القائم، ولها استمرارها في الخبرات التالية.

التالي السابق


الخدمات العلمية