العصر العالمي والربط الحضاري
إننا نريد اليوم، ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين، أن ننجز عملية تغييرية حضارية في مستوى القرآن الكريم، والسنة النبوية. ففي ظل قرن الحضارة العالمية، يطرح سؤال مهم هـو:
كيف نربط الناس بالإسلام، وبمشروعه الحضاري من جديد؟
وأمام هـذا التساؤل، فإننا مضطرين إلى تحديد صورة عامة، عن طبيعة عمليات الربط الحضاري، ومتطلباتها الأساسية، مرجئين منهجية الربط، وكيفياته إلى حينه. فلكي تتم عمليات الربط الحضاري، بشكل مستوف للشروط، نحن بحاجة إلى:
- السعي إلى بناء شبكة علاقات اجتماعية في كل مجتمع من المجتمعات الإسلامية القائمة، كمرحلة ضرورية على طريق بناء شبكة العلاقات الحضارية للأمة من جديد، وذلك من خلال التحرك على مستوى: الإنسان، والمجتمع، والإنسانية.. والاستفادة من التعاطف العالمي مع الإسلام، من قبل من لم تمسخ الحضارة الغربية فطرتهم الخيرة.
- بناء وعي مستوعب على الواقع الاجتماعي الفردي، والجماعي المحلي، والعالمي، على اعتبار أن هـذا الواقع سوف يخاطب بالأهداف الحضارية الكبرى للإسلام.
- تشكيل وعي عميق على الرؤية التوحيدية، ومشروعها الحضاري البديل [ ص: 129 ] وضوابطها الشرعية، ونواظمها الثقافية، والمعرفية، والأخلاقية، وضماناتها ووعودها.
- امتلاك منهج للعمل التغييري الذي سوف يجدد الوسائل، والأولويات، والمراحل، والأوقات التي ينفذ فيها الفعل التغييري، كما تعرف فيه أساليب التغيير في مرحلة الربط الحضاري، ومنهجياته النظرية والعملية، وإجراءاته التربوية، والاستثنائية. فبدون منهج واضح المعالم، والخطوات، والأهداف، والسياسات، قد لا تصمد الحركة التغييرية أمام ابتلاءات الواقع العالمي الداهمة!؟
وفي نفس المفصل التغييري سوف تكون الحركة التغييرية مطالبة بوضع مخططات، وبرامج للربط الحضاري على المستوى الفردي، والجماعي، والإنساني، وعلى الصعيدين المحلي والعالمي، والانطلاق الفعلي في طرح الرؤية الإسلامية، وعرضها على المجتمعات، وهنا تنشأ ضرورة التخصص في الفعل التغييري من خلال إنشاء المؤسسات التغييرية لعالم الربط الحضاري والتي منها:
- مؤسسات إعداد، وانتاج مناهج عرض الرؤية، والضمانات، بالأسلوب الأمثل، الذي أثر عن النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام (الجدل الأحسن) و (التيسير المخفف) .. وهنا تعد المشاريع التربوية بالمفهوم الشمولي حتى تصبح تربية اجتماعية، تطول كل شرائح المجتمع، وفي كل مؤسساته المتنوعة، مع مراعاة توزيع الخريطة الثقافية، والجغرافية للناس، وقدراتهم، واستعداداتهم، كما أشرنا في البداية، فالعامة موضوع، والجماهير موضوع، والمثقفون موضوع، والمفكرون موضوع، والمهنيون موضوع، والسياسيون موضوع، والتجار والأغنياء موضوع.. إلخ، وكل موضوع من هـذه الموضوعات يحتاج إلى فهم معادلته، والأسلوب الأمثل في التعامل مع قضاياه، ومتطلباته.
- مؤسسات ممارسة الدعوة، وتخريج الدعاة الربانيين، وإنتاج منهجيات البلاغ المبين. [ ص: 130 ]
- مؤسسات توزيع، ونشر الأفكار، وتبادل الخبرات.
- مؤسسات المتابعة، والمراقبة، والتقويم المتنامي للأشخاص، والأشياء، والأفكار.
- مؤسسات تنمية الإمكان المادي، والوسائلي، والخبرات الاستخدامية للأدوات.
كما أن كل مؤسسة من هـذه المؤسسات وغيرها، تقتضي تفريعات، وتخصصات، فمثلا في مؤسسات إعداد، وإنتاج مناهج عرض الرؤية، والرسالة نحتاج إلى:
- قسم التوجيه وإنتاج المنهجيات الدعوية.
- قسم التوجيه المعرفي للعلوم الاجتماعية، والسلوكية، والكونية عموما.
- قسم تصنيف احتياجات الدعوة على صعيد الأفراد، والأسر، والجماعات، والدول، والمجتمعات، والأمم، والإنسانية..
- قسم هـندسة عالم الأشخاص، وتسيير الجهاز البشري للحركة التغييرية، بعيدا عن منطق الإدارات، والبيروقراطيات المريضة، بل في إدارات أخرى هـي إدارات الجرح والتعديل، وعلم الرجال.. إلخ.
- قسم متابعة الحركة التربوية، والتكوينية للمرتبطين بالرسالة، والإجابة عن تساؤلاتهم، وتنمية صلاتهم بالفكرة.
هكذا إذن تتعقد العملية التغييرية، وتتعقد العمليات في مفصل الربط الحضاري، كلما تطور العقل البشري، ونما نضجه الفكري، والنفسي، وكلما تحسن النمو العقلي والنفسي للناس، كلما حقق الإسلام مقاصده المنشودة، لأن [ ص: 131 ] الإسلام يحب العمل تحت سيادة منطق الحوار، والإقناع، والجدل الحسن، ويمج منطق التزييف، والغموض، والقهر.
فالتغيير الحضاري لم يعد مجرد تكديس للأعمال والبشر، بل أصبح هـندسة حضارية عالية للمجتمع، وطاقاته، تتطلب المزيد من الوعي والفهم والخبرة.
التالي
السابق