الخـاتمـة
تبني هـموم الناس -مبدئيا- والسعي لإزالتها، وتفريجها قدر الطاقة، هـيئة نفسية ملازمة المسلم حقا.. وفي كتاب الله، وسنة مصطفاه صلى الله عليه وسلم ، نظام تربوي شامل، يتغي، تثبيت هـذا الخلق في نفوس المسلمين، مما قد مر معنا بيان بعض جوانبه، في فصول هـذا البحث.. فههنا آلية مركزية، من آليات حفظ الأمة، وبنيانها، تضمن توطيد، وتوثير شبكة العلاقات الاجتماعية، بين أفرادها ومؤسساتها، كما تضمن للأمة، نظاما حمائيا، ضد كثير من العلل الحضارية، كالفرقة، والاستبداد، والاستضعاف، والظلم، والفقر، والتحييد، وغيرها..
لقد حفظ الله بهذا الخلق -رغم ما أصابه من فلول- الأمة، من أن تذهب بددا، في أحلك لحظات تاريخها.. وما أحداث خلت، ومواقف سلفت، كهبوب المعتصم، لإنقاذ امرأة من براثن الروم، حين نادت: (وا معتصماه) ، وعبور
يوسف بن تاشفين ، تاركا عاصمة ملكه، إلى
الأندلس ، من أجل ترتيب البيت الإسلامي هـناك، ونهضة آل زنكي، وبعدهم
صلاح الدين مولاهم، من أجل استنقاذ القدس، وصولات
خير الدين بربروس ، في البحر الأبيض المتوسط، من أجل حماية بيضة الإسلام، من غائلة أعدائه، ومفاداة الأسرى المسلمين -بغض النظر عن أوطانهم- بالإفرنج، من لدن جل الدولة الإسلامية، التي كانت قائمة، إلاخير مؤشر على الوظيفة، التي أداها، خلق تبني هـموم الناس.
ورغم الشرخ الذي حصل، منذ وقت مبكر في أمتنا، بين الدولة، والمجتمع
>[1] ، فقد بقيت المجتمعات الإسلامية، تتحرك ذاتيا، بفعل تأصل، هـذا الخلق في كيانها، فقومة رجالات من أبناء هـذه الأمة، في السالف من تاريخها، لتبني قضاياها، ودفع المخاطر، بكل أصنافها وضروبها عنها، وإن كانت حياتهم، أو حريتهم الثمن.. وتحرك آخرين في العصر الحديث، لمنازلة الاستعمار، والتخلف في العالم الإسلامي، وكذا تضامن المسلمين، بكل
[ ص: 156 ] شرائحهم، وفي مختلف أرجاء الأمة، مع قضية فلسطين، وقضية البوسنة، وقضية الشيشان، وغيرها من القضايا -وما أكثر القضايا في أمتنا!- إلا مفعول سؤر الأيام والأحداث من هـذا الخلق، الذي كاد قدحنا منه يفرغ، وقد كان مترعا، حال جدة البناء، لأننا لم نتنبه إلى ملئه من الشرعة الناضة بالخير والهدى، التي زودنا بها الباري.
إن هـذا الخلق، كاللحمة لبناء هـذه الأمة، وهو باعث الجهاد، والتضامن، والتكافل فيها.. وقد أدى غياب الوعي السنني، والممنهج به، والذي يمكن من تجديده، وتناقله بين أجيال الأمة، أدى ذلك إلى فله، والنيل منه، في كثير من جوانبه، حتى أضحى فعله فينا، أشبه بانتفاضات الجسد المهدود، غير المنضبطة، والتي يروم بها -بشكل أقرب إلى اللاإرادي- حماية نفسه.
لقد استهدف هـذا الكتاب -ما استطعت- منهجة الوعي، بخلق تبني هـموم الناس، ليكون وعيا سننيا، يقدرنا على إعادة تجديده، وإنتاجه، في كل حين، بإذن الله.. كما جعل من هـمه التنبيه، إلى جملة أسباب، أدت إلى ضموره، وانحساره من حياة المسلمين، لتصبح هـذه الأسباب السلبية، إذا طبقنا عليها (مفهوم المخالفة ) ، أسبابا إيجابية، منتجة له، ومحافظة عليه، في واقعنا.
جعل هـذا الكتاب من هـمه أيضا، إثارة بعض القضايا الملحة، التي تحتاج إلى الدراسة والبحث، سواء من حيث التشخيص لها، أو البحث لها عن حلول، أو صياغة خطط الإنجاز والتنزيل، لهذه الحلول، وإقامة وسائل التقويم المستمر، الممكن من الاستدراك، وكذا التجاوز الإيجابي، خلال عملية التنزيل.
وبالجملة، فإن هـذا الكتاب، لا يعدو -كما هـو- كونه إجراء ضمن جملة الإجراءات، التي ينبغي أن تتخذ لمعالجة إصابة الأمة في هـذه الوسيلة، من وسائل، نمائها.
ثم ختاما، فإنني أسأل الله الجواد، أن يجعل هـذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به، ويجعله ذخرا لكاتبه، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
والحمد لله رب العالمين.
[ ص: 157 ]