الرضاعة الطبيعية وتنمية القدرة الذكائية
منذ ما يزيد على عشرين عاما توصل الباحثون إلى أن الأطفال الذين رضعوا من ثدي الأم، يتفوقون من ناحية الذكاء والتحصيل الدراسي على الأطفال الذين رضعوا لبنا صناعيا، وأوضحت إحدى الدراسات الحديثة أن تلك الميزات تستمر حتى يبلغ الطفل سن الثامنة عشر، وقام الباحثون بمقارنة ما يقرب من 1000 شـخص تتراوح أعمارهم بين 8 و 18 سنة، فوجدوا أنه كلما زادت فترة الرضاعة الطبيعية من ثدي الأم، زاد معدل ذكاء الفـرد وأدائه بغض النظر عن خـلفية الأم التعـليمية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وكان الفارق متوسطا ولكن ثابتا.
ويوضح الباحثون أن شيئا ما في لبن ثدي الأم -مثل الأحماض الأمينية - أو شيئا ما في عناية الأم بطفلها، يعزز النمو المعرفي للطفل، ويرى هـؤلاء الباحثون أن توفير الرضاعة الطبيعية والتغذية السليمة والعناية بالأنشطة، وتقديم مستوى علمي جيد يؤدي دورا مهما في تحقيق معدلات أداء الطفل في المدرسة تفوق معدلات أداء الأطفال الذين رضعوا بطريقة صناعية.. ويطالب الباحثون الوالدين ببذل قصارى جهدهما ليتمكن طفلهما من الاستفادة من أقصى إمكانات الرضاعة الطبيعية، وإن كانت الرضاعة الطبيعية ليست الشيء الوحيد الذي يحدد معدل الذكاء والأداء المعرفي، ولكنها بالتأكيد أحد أهم تلك المحددات.
[ ص: 55 ]
ومن المعروف علميا أن للرضاعة الطبيعية فوائد بدنية وأخرى نفسية على صحة الطفل.. ولنتناول بشيء من التفصيل تلك الفوائد، وهي:
أ- من الناحية البدنية
من الحقائق العلمية التي لا يختلف عليها الباحثون والعلماء ولأطباء، أنه ليس هـناك غذاء يمكن أن يقوم مقام لبن الأم، وقد أكدت التجارب التي أجريت بهذا الشأن، أهمية لبن الأم وفائدته البدنية والنفسية للطفل، علاوة على أنه لذيذ الطعم، معتدل الحرارة، دون زيادة ولا نقصان، وقد اكتشف العلماء أن ثدي الأم، يفرز في الأيام الأولى من ولادة الطفل سائلا أبيض يميل إلى الصفرة، لزجا، سميكا، يعرف باسم «الكلستروم» أي «اللبأ» أو «المسمار»، يحتوي على قيمة غذائية كبيرة، لا غنى عنها، ولا بديل لها بأي شيء صناعي آخر، إذ إنه يحتوي على تركيزات عالية من بروتينات خاصة، مضادة لنمو الميكروبات التي تسبب الأمراض.
كما تبين أن لبن الأم، يتناسب مع جنس المولود، ونوعه، وعمره، وأن مكوناته تختص بنمو المخ والأعصاب، والقدرات الذهنية، أي الذكاء، بالدرجة الأولى، ثم العضلات والجهاز الحركي، في المرتبة الثانية، وقد لوحظ أن الأطفال الذين يتناولون ألبانا صناعية، يكونون أكثر عرضة للضعف العقلي، وأمراض سوء التغذية، والإسهال المصحوب بالجفاف، إذ إن لبن الأم، يحتوي على المواد الغذائية اللازمة للطفل، وبنسب معينة تلائم حاجة الطفل في مختلف مراحل فترة رضاعته، ولهذا فقد سمى العلماء لبن الأم بـ
[ ص: 56 ] «الدم الأبيض»، لأنه يحتوي على جميع مكونات الدم الذي يجري في عروق الإنسان، بل ويؤدي نفس الوظائف المطلوبة منه، من غذاء شامل للبروتينات والدهنيات ، كما يتضمن عوامل المناعة، ومقاومة الميكروبات الفتاكة، والخلايا الحية التي تفترس البكتيريا الضارة، التي تغتال الرضيع.
ويختلف لبن الأم، عن اللبن الحيواني، إذ يقل فيه الزلال والأملاح عن اللبن الحيواني، مما يجعله أكثر فائدة للطفل، فالمواد التي تتركب منها ألبان الحيوانات «أعسر هـضما، وأقل قيمة غذائية، من اللبن الآدمي، علاوة على أنها عرضة للتلوث بالميكروبات، مثل السل ، والتيفود ، والدفتيريا ».
وما أشرنا إليه، يكفي لبيان أهمية وفوائد لبن الأم كغذاء حيوي وضروري لحماية حياة الطفل، ولتنمية ذكائه، أما الإحاطة بكافة فوائده، فهي عـديدة، وتزداد معرفتنا بها يوما بعد يوم، كلما تقدمت العلوم والمعارف، إذ يكتشف الإنسان مكونات عديدة وفوائد لم يكن يعرفها من قبل، وصدق الله العظيم القائل :
( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) (الإسراء:85) .
ب- من الناحية النفسية
من المشاهد، أن الأم عندما ترضع طفلها فإنها تضمه إلى صدرها، فيشعر بالدفء والحنان.. وقد لاحظ العلماء أن الطفل عند الرضاعة يسمع دقات قلب أمه، مما يحدث له نوعا من الاطمئنان والراحة.. وقد أوصى العلماء القائمون على دور الحضانة بتسجيل صوت هـذه الضربات
[ ص: 57 ] على شـرائط تسجيل حين الرضاعة الصناعية، ليسـمعها الطفل فتحقق له راحة نفسـية، تقارب تلك التي يشعر بها الطفل الرضـيع من أمه.. كما قيل: إن هـزات القلب المنتظمة، تؤدي إلى نمو خلايا معينة في مـخ الطفل تجعله أكثر سلامة من الناحيتين، الصحية والنفسية.
فالأم، علاوة على استطاعتها إرضاع طفلها اللبن الذي وهبه الله إياه، تحمل بين جوانبها عاطفة فياضـة، وهي عاطفة الأمومة، التي لا غنى للطفل عنها، وهي تظهر، وتصبح أكثر وضوحا أثناء الرضاعة، إذ تضم الأم الطفل إليها وإلى صدرها، فيشعر بالدفء والحنان والحب، مما يهدئ من أعصابه، ويجعله أكثر اطمئنانا وراحة وسكينة. وكذلك الحال بعد الرضاعة، إذ ننصح دائما بحمل الطفل، والربت على ظهره، ليتجشأ ويخرج الهواء من المعدة، ليتفادى الإصابة بالغازات، أو المغص، أو غير ذلك من المنغصات التي قد تحدث بالجهاز الهضمي، فإذا تجشأ الطفل استراح بدنيا، واستراح نفسيا، لعدم شعوره بما يتعبه أو يؤلمه، وبخاصة إذا لاعبته الأم أو بقيت معه قليلا؛ لأنه بذاك سيكون في سرور بالغ، وراحة نفسية كبيرة؛ لأن حاجته إلى الغذاء قد تمت، وكذلك حاجته إلى الحب والملاعبة.
ولا شك أن ما يؤثر في صحة الطفل البدنية والنفسية في الصغر، يكون له تأثير عليه في الكبر، والملاحظ أن الطفل الذي ينشأ ويشب غير مستقر نفسيا، بخلاف الذي ينشأ في أسرة هـادئة، تعيش في سلام ووئام، وكذلك الحال مع الطفل الذي لا يلقى المعاملة الحسنة في صغره، ويعامل بقسوة
[ ص: 58 ] وجفوة، فإنه غالبا ما ينشأ وفيه بعض من هـذه الصفات السيئة والطفل الذي لا ترضعه أمه، وتتركه (للغير) ليناوله رضعته، يكون عرضة لسوء المعاملة من هـذا (الغير) ، رغم أنه قد يكون قريبا أو صديقا، إذ إنه لا يوجد أحد أكثر من الأم تحملا للطفل، وصبرا عليه إذا بكى، أو غضب، أو أخطأ.
فلا مناص إذن من الالتزام بالحق والصواب، والرجوع إلى ما أمر به الله ورسوله، من وجوب رعاية الأم لطفلها، والحرص على إرضاعه لبنها؛ لأن التهاون في إحدى المهام، يؤدي إلى التهاون في أمور أخرى، فيزداد الإثم، وتتوالى الأخطاء التي تظهر نتيجتها السيئة، عاجلا أو آجلا.