المبحث الأول: مقومات الحوار (أركانه وقواعده)
أركان الحوار
للحوار ركنان أساسيان، هـما:
1 - وجود طرفين متحاورين.
2 - وجود قضية يجري الحوار بشأنها.
الركن الأول: وجود طرفين متحاورين
لا بد للحوار من وجود أكثر من طرف في عملية المحاورة؛ لأن الحوار لا يتحقق إلا عندما يتم طرح أكثر من رأي وأكثر من فكرة في موضوع محدد، أما الحوار مع النفس فهو حوار ذاتي يحاول فيه المحاور أن يصنع لنفـسه طرفا من داخله يتفـاعل معه، ولـكنه مع ذلك يبقى حوارا روحيا داخـليا، أو سـرا شخصيا لا يمكن الإطـلاع عليه إلا إذا أفصح عنه المحاور.
ولكي يتمكن كل طرف من طرفي الحـوار إجراء المحاورة في مناخ طبيعي يتحقق من خلاله الوصول إلى صيغة علمية في الأداء والطرح والتفكير، فإن ذلك يتطلب جملة من الشروط، نذكر أبرزها:
[ ص: 49 ] 1- توفر الحرية الفكرية إذا أردنا للحوار أن ينتهي إلى نتيجة منطقـية يسلم بـها الطرفان، فلا بد أن يملك كل منهما حرية الحركة الفكرية التي تحقق له الثقة بشخصيته المستقلة، بحيث لا يكون واقعا تحت هـيمنة الإرهاب الفكري والنفسـي الذي يشعر معه بالانسحاق أمام شخصية الطرف الآخر، لما يحس به في أعماقه من العظمة المطلقة التي يملكها الطرف الآخر.
>[1]
إن عدم توفر الحرية الفكرية تجعل ثقة المحاور بنفسه تتضاءل شيئا فشيئا حتى يفقد بعد ذلك ثقته بفكره وقابليته لأن يكون طرفا في الحوار والمناقشة، كما أن ذلك يعمل على إرباك المحاور وتشتيت أفكاره، فبدلا من أن يستحضر حججه وبراهينه لمعالجة القضية التي يحاور من أجلها، يجد نفـسه مضطرا للدفاع عن شخصيته الفكرية وفك قيدها من أسـر وهيمنة الإرهاب الفكري المصاحب لذلك الحوار.
والمتتبع للحوارات التي أجراها النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه حاول في أكثر من مناسبة توفير المناخ الطبيعي للأطراف الذين أدار عملية الحوار معهم من خلال تأكيده على جانب البشرية فيه، فهو بشـر مثلهم لا يملك أية قوة غير عادية في تكوينه الذاتي، فلا يستطيع تنفيذ المعجزات التي يقترحونها عليه، ولا يعلم الغيب، وإنما هـو إنسان يتلقى الوحي من ربه باعتباره رسول رب العالمين، ومهمته في ذلك هـي تبليغ الرسالة بالوسائل المقنعة والصيغ
[ ص: 50 ] العلمية إلى الناس، عن طريق الحوار والمناظرة دون أن يشعرهم بتميزه عنهم، أو إملاء أفكار يفرضها عليهم، فلا مكان عندئذ للإرهاب أو الضغط على الحرية الفكرية، وهو لا يملك طاقة سحرية تدفعهم إلى الإيمان بما يدعوهم إليه، وإنما لهم الحرية الكاملة في ذلك كله، فإن استجابوا له واقتنعوا بدعوته فـذلك هـدف الرسالة وغايتها، وإن لم يستجيبوا فحسبه أنه أدى الرسالة وبلغ الأمانة وقام بواجب تجاه الوحي المنـزل إليه،
وفي هـذا يقول الله تعالى:
( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) (الأعراف:188) ،
ويقول أيضا:
( قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل ) (يونس:108) . 2- الاستعداد النفسي للاقتناع بالنتائج لا بد لمن يدخل في عملية الحوار أن يعد نفسـه إعدادا تاما لتقبل النتائج التي يئول إليها الحوار ويهيئ عقله للاقتناع بها؛ لأن رفض النتائج وعدم تقبلها يقلب الحوار إلى جدل عقيم لا يراد منه سوى المماحكة وعرض القدرات الكلامية وتقديم المزايدات الجدلية المقيتة التي تعود بالحوار إلى ما يناقض هـدفه وغايته.
إن عدم استعداد طرفي الحوار لقبول النتائج يعني أن فكرة كل واحد منهما كانت معدة سلفا ولا مجال عنده للتراجع عنها مهما ظهر له من
[ ص: 51 ] الأدلة والبراهين، فهو في هـذه الحالة يكون تابعا لدوافعه الذاتية والاجتماعية التي لا علاقة لها بالقناعة الفكرية والعلمية المرتكزة على البرهان والدليل.
لقد عاب القرآن الكريم على أولئك الذين يحاورون رسـول الله ( ولكنهم ليسوا مستعدين لتقبل نتيجة المحاورة،
فقال تعالى:
( ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هـذا إلا أساطير الأولين ) (الأنعام:25)
فهؤلاء يستمعون إلى الدعوة ولكن قلوبهم مغلقة وآذانهم مسدودة عن الإصغاء إليها ولذلك فهم معرضون عن الإيمان بها لعدم استعدادهم لقبول نتائج الحـوار، إنكـارا وكفرا وعـنادا، وليس لديهم ما يواجهون به الدعوة إلا كلمة لا تعبرعن أية مسئولية فكرية وهي قولهم:
( إن هـذا إلا أساطير الأولين ) دونما حجة أو برهان على ذلك.
إن المحاور الذي لا يكون مسـتعدا لتقبل النتائج التي يئول إليها الحوار يدخل دائرة المكابرة والجهل، ويبتعد عن الموضوعية العلمية،
وفي هـذا يقول الله تعالى:
( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ) (الأنعام:111)
فهذا الصـنف من الناس يبـرر الامتناع عن الإيمان بالمطالبة بما يكون خارقا للعادة رغم أن قضية الإيمان ليست مرتبطة بذلك، فالآيات الخارقة للعادة خاضعة للحكمة الإلهية، لا تتحقق إلا بمقدار الضرورة التي يدعو إليها ما يثبت النبوة والوحي في بعض حـالات التحدي التي تواجهها بقوة..
[ ص: 52 ] أما ما يطالبون به أثناء محاوراتهم ومناظراتهم فلا يخرج عن دائرة المكابرة والتبريرات الواهية التي لا تستند إلى أساس علمي، وهو ماأشارت إليه الآية الكريمة:
( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله )
فليست القضية قضـية آيات تقـترح ليستجاب لها أو لا يستجاب، بل القضية هـي فقدان الاستعداد النفسي لتقبل الإيمان مهما كانت الأدلة والبراهين، وهذا يثبت أنه متى ما فقد أي طرف من المتحاورين الاستعداد لقبول نتائج الحوار فإنه يكون قد فقد شرطا أساسيا من شروط المنهج الذي يوفر المناخ الطبيعي للمحاورة. 3 - عدم التعصب لفكرة مسبقة ويعني هـذا الشـرط أن يتخلى كل من الطرفين المشـاركين بالمحاورة حول موضوع معين، عن التعصب لوجهة نظر مسبقة وعن التمسك بفكرة يرفض نقضها أو مخالفتها؛ لأن التمسك بوجهة النظر السابقة يتباين مع منهجية الحوار في تبادل الأفكار وتداول الطروحات وسماع الرأي (الآخر) .
إن طبيعة الحوار تقتضي الإعلان من الطرفين عن الاستعداد التام للكشف عن الحقيقة والأخـذ بـها عند ظهورها، سـواء أكانت وجهة نظر سابقة، أو وجهة نظر الطرف (الآخر) الذي يحاوره، وقد أكد القرآن الكريم على هـذا المفهوم بصراحة واضـحة، وأرشدنا إلى الأخذ بهذا المبدأ عندما وجـه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين في محاورته لهم:
( وإنا أو إياكم لعلى هـدى أو في ضلال مبين ) (سبأ:24)
وفي هـذا غاية الابتعاد عن التعصب
[ ص: 53 ] لفكرة سابقة، وكمال الرغبة في البحـث عن الحقـيقة أنـى كانت ومن أين صدرت.
ونظرا لأن موضوع المحاورة التي تتحدث عنه هـذه الآية توحيد الله تعالى أو الإشراك به، وهما أمران على طرفي نقيض لا يلتقيان بأي حال من الأحوال، وهما يدوران حول أصل عظيم من أصول العقيدة الإسلامية، كان من البديهي أن الهداية في أحدهما إذ هـو الحق، وأن الضلال في الآخر إذ هـو الباطل، ومن أجل ذلك كان التخلي عن التعصب لفكرة سابقة يتضمن الاعتراف بهذه الحقيقة.
>[2]
وقد ذكر الإمام الغزالي أن على المحاور أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يديه أو على يد غيره، بحيث يكون المحاور رفيقا ومعينا له لا خصما عليه.
>[3] الركن الثاني: وجود قضية يجري الحوار بشأنها ذلك أن الحوار لا يتحقق من فراغ، وإنما يدور حول فكرة أو موضوع يستحق البحث والمناقشة وتبادل الآراء مع (الغير) ؛ لأن عدم وجود الفكرة أو القضية التي يجري الحوار بشأنـها يجعل عملية التحاور ليست ذي بال ولا طائل منها، بل إنها تتحول من محاورة علمية إلى سفسطة كلامية توصل أطرافها إلى اللجاج الذي يقتصر الأمر فيه على النقاش لذاته، ويكون هـم المتنافسين إحراز غلبة على الخصم ونيل الشهرة دون هـدف علمي منشود.
[ ص: 54 ] إن من حقوق البشر: حق الاتفاق، وحق الاختلاف، فإذا جاء من يلغي الحق الأخير فهذا هـو الاسـتبداد المقيت؛ لأنه ينظر إلى بني الإنسان كما ينظر إلى مجتمع النحل، وفي هـذا المفهوم يقول
الدكتور يحيى الجمل : كوننا لا نعرف كيف نتفق أصبح أمرا شائعا، ولكن المشـكلة الحقيقية أننا لا نعرف كيف نختلف.. فالاختلاف في الرأي ظاهرة صحيحة تعرفها كل المجتمعات المتحضرة، إلا أنها تنقلب إلى مأساة عندما يتحول الاختلاف إلى درجة العداء والتحزب الضيق والخروج على مصالح الأمة.. فالاختلاف من طبائع البشر، وهم يختلفون لأسباب أبرزها اختلاف المصالح واختلاف المكونات الحضارية والثقافية مما يؤدي إلى اختلاف النظرة العقلية للأمور، وهناك ثلاثة طرق للتصدي للخـلافات هـي: الحوار، والتعايش، والحرب. فأما الحوار فهو الوسيلة الأولى والأكثر أهمية وتنوعا.
>[4]
وبهذا يتضح أن من الطبيعي جدا في حياة الأفراد والمجتمعات أن تكون هـناك قضايا يجري الحوار بشأنها، وأفكار ومفاهيم متباينة يتم تزاوجها وتبادل الآراء فيها للوصول إلى الحقيقة.. هـذه القضايا وتلك المفاهيم هـي الأرض الخصبة التي تمد المتحاورين بالقضايا العلمية، وبدونها لا يكون هـناك حوار، ولا يتحقق التزاوج في الأفكار بين بني البشر.
وأهم ما يتم التركيز عليه في هـذا الجانب هـو معرفة الطرفين المتحاورين للموضوع المطروح للتحـاور، والوقوف على الفـكرة التي يريدان إثباتها
[ ص: 55 ] أو نفيها؛ لأن الجهل بها وعدم الإطلاع على تفاصيلها يحـول الحوار إلى أسلوب من أساليب الشـتائم والمهاترات بدلا من طرح الفكرة المعنية والدفاع عنها، ذلك أن المعرفة التامة بالقضية التي يجري الحوار بشأنها تجعل المحاور يعلم كيف يبدأ الحوار، وكيف يعالج مفرداته، وكيف ينتهي منه، في وضوح الرؤية وهدوء الفكر وقوة الحجة ووداعة الكلمة.
وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض النماذج البشرية التي وقفت ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته من دون أن يكون لها علم بها أو إحاطة بعناصرها،
إذ قال تعالى:
( ها أنتم هـؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (آل عمران:66) ،
وقال تعالى:
( إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هـم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هـو السميع البصير ) (غافر:56)
فهذه الآيات تثبت أن القرآن الكريم يأخذ على كل هـؤلاء الذين يخاصمون الأنبياء، أنهم يدخلون معركة الحوار دون سلاح؛ لأنهم لا يملكون علما أو حجة، وليس لديهم إحاطة بالموضوع الذي يتحاورون فيه، مما يجعل حوارهم ورفضهم لنتائجه قضية مزاج، وعقدة نفسية تتحكم بهم فتدفعهم إلى اللف والدوران وإلى التكذيب بلا مبرر، الأمر الذي لا يؤدي إلى أية نتيجة لحساب المعرفة أو لمصلحة الحق.
>[5] [ ص: 56 ] ومن هـنا فإن الواجب على من يتصدى للحوار أن يكون على بينة من الموضوع الذي يحاور فيه، والقضية التي يجري النقاش فيها، حتى لا يكون بعيدا عن منطق المعرفة والموضوعية في عملية التحاور، كما أنه ينبغي عليه أن يتزود بالثقافة العامة التي تجعله قويا في حجته أمام خصومه من خلال إحاطته بعناصر القضية التي يتحاور فيها، كما أن عليه أن يكون ملما بالثقافة المضادة التي يملكها الطرف (الآخر) ليسهل عليه الوقوف على نقاط الضعف والقوة عند خصمه، وليستطيع الموازنة والمفاضلة بين الفكرتين بمنطق العقل والعلم والدليل.