شروط المحاورة
يشترط في المحاورة ما يأتي:
>[1] 1- استخدام اللغة القوية
نظرا لأن المحاورة هـي محاولة لإقناع الطرف (الآخر) بوجهة نظر معينة، فإن ذلك يتطلب استخدام لغة قوية عن طريق وضوح الألفاظ، وترتيب الأفكار، وتسلسل المقدمات، وصولا إلى النتائج المرجوة.
ومن هـنا فإن المحاورة تتطلب ضرورة استخدام أقل الكلمات المعدة إعدادا دقيقا للتعبير عن الفكرة وبيان الحقيقة، كما أن من الضرورة اصطفاء أفضل الألفاظ وأكثرها وقعا في النفس وتأثيرا على المحاور.
[ ص: 70 ] وإذا استخدم المحاور اللغة الواضحة فإن ذلك سيوصله إلى الكلام الحسن الذي يخدم الحقيقة دون لبس ولا غموض، وقد أوصى الحكماء بأن لا ينطق الإنسـان إلا بما يفيده أو يفيد الآخرين، أو أن يمتنع عن الكلام، كما أن كتب التراث زاخرة بالحكم والأمثال المتعلقة بضبط الكلام والتحكم به، فقد جاء في الأمثال:
«من نطق في غير خير فقد لغا، ومن نظر في غير اعتبار فقد لها، ومن سكت في غير فكر فقد سـها».
«الكلام كالدواء، إن أقللت منه نفع، وإن أكثرت منه صدع».
«من كثر كلامه كثر سقـطه، ومن كثر سقـطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه».
«صد اللسان إلا في أربعة : في الحق توضحه، وفي الباطل تدحضه، وفي النعمة تشكرها، وفي الحكمة تظهرها»
>[2] .
2- اختيار الأسلوب الأمثل
هناك طريقتان للحوار الفكري في جميع مجالاته، فهناك طريقة العنف التي تعتمد مواجهة المحاور بأشد الكلمات وأقسى العبارات، بحيث يتم التركيز على كل ما يساهم في إيلامه وإهانته، دون مراعاة لمشاعره وأحاسيسه، ولا شك أن هـذه الطريقة إنما تنتج المزيد من الحقد والعداوة والبغضاء، وتبعد عن الأجواء التي تساهم في الوصول إلى النتائج الطيبة.
[ ص: 71 ] وهناك طريقة أخرى تعتمد اللين والمحبة، وتعتبر الحوار وسيلة للوصول إلى الهدف، وهذه الطريقة تعتمد الكلمات الطيبة المرنة التي تقرب الأفكار وتعمل على توحيد المفاهيم بعيدا عن العنف والشدة.
وقد ركـز الإسـلام على الطريقة الثانية في جميع أساليب الحوار من أجل الوصول إلى المعرفة، وأطلق على هـذا الأسلوب مصطلح: «التي هـي أحسن» ليكون طابع الحوارات الإسلامية في كل المجالات،
وذلك في قولـه تعالى:
( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) (فصلت:33)
وفي قولـه تعالى:
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هـي أحسن ) (النحل:125)
ولا شك أن الجـدال بالتي هـي أحسن إنما يتمثل في اتباع أفضل الأساليب وأحسنها في إقناع الطرف الآخر بالفكرة التي يدور حولها الحوار.
3- احترام التخصص
من شروط المحاورة احترام التخصص وعدم التحاور في موضوعات ليس لها علاقة بفكر المحاور واهتماماته.. والواقع أن هـذا شرط يتسع ليشمل جميع وسائل المعرفة ولا يقتصر على الحوار فحسب..
" عن
محمد بن سيرين أن رجلا جاء إلى
عمر بن الخطاب فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية، فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت.. قال فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول:
[ ص: 72 ] هـذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلا يحكم معه ! فسمع
عمر قول الرجل فدعاه فسأله: هـل تقرأ سورة المائدة؟ قال: لا، قال: فهل تعرف هـذا الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا.. فقال: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربا.. ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه :
( يحكم به ذوا عدل منكم هـديا بالغ الكعبة ) وهذا عبد الرحمن بن عوف. "
>[3] .. فنحن نرى أن
عمر بن الخطاب تعامل مع هـذا الحكم بطريقة علمية تخصصية، ولكن السائل لم يستطع إدراك الموقف وتفهمه لعدم تخصصه، ولذلك دعاه عمر إلى احترام التخصص واستكمال عدة العلم قبل أن يعترض على الطرف الآخر في المحاورة، ويؤيد هـذا ما " روي أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه ، خطب الناس فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت
أبي بن كعب . ومن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأت
معاذ بن جبل . ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت
زيد بن ثابت . ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإني له خازن
>[4] . "
[ ص: 73 ] وفي هـذا دعوة إلى اعتماد التخصص في جميع الفنون والعلوم؛ لأنه ينتج التحري الدقيق عن المعرفة، والتحقق من الفكرة، والوثوق من الهدف، وكل ذلك عامل من عوامل نجاح الحوار وموضوعيته.
4- طلب الحق بتجرد عن العاطفة
وهذا يعني أن مجرد الادعاء لا يحقق الغرض المطلوب للوصول إلى الحقيقة، وأن الحماس للفكرة ظاهرة صحية، ولكنه لا يكفي وحده للوصول إلى عقول الناس وقلوبهم، بل لا بد من أن يطلب الحق بتجرد عن الحماس والعاطفة، فقد " روي عن
ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: تخاصم أهل الأديان فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، وكتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا، فقضى الله بينهم وقال:
( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) ، وخير بين الأديان فقال:
( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ) (النساء:123- 125) . "
[ ص: 74 ]
وقال
مجاهد : قالت العرب: لن نبعث ولن نعذب، وقالت
اليهود والنصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان هـودا أو نصارى، وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معـدودات، وتعني هـذه الآيات أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال إنه هـو على الحق سمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان، ولهذا قال تعالى:
( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) أي ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني بل العبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام، ولهذا قال بعده:
( من يعمل سوءا يجز به ) كقوله:
( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) >[5] .
وهكذا فإنه يجب أن يكون الحـوار في مسائل الدين بالقدر الذي يساعد على إحقاق الحق في موضوع النـزاع، فإذا انحرفت بالحوار أهواء قوم لا يريدون إلا كسب الوقت وإضاعة الجهد فنحن مأمورون بقفل النقاش احتراما لعقولنا أن تشغل بما ليس نافعا، واحتراما للحق الذي يقتضي البعد عن المراء والجدل العقيم.
هذه هـي أبرز شـروط المحاورة التي أمكننا استخلاصها من خلال متابعة طبيعة الحوار وضوابطه، والتي يجب أن تتوفر لتكون المحاورة محققة للأهداف المرجوة منها في الوصول إلى الحقيقة.
وهناك شروط أخرى ذكرها الدكتور جمال شلبي في رسالته: «آداب البحث والمناظرة»، حيث قال : يشترط في المناظرة أربعة شروط
>[6] :
[ ص: 75 ] الشرط الأول: أن يكون المتناظران على معرفة تامة بما يحتاج إليه كل منهما من قوانين المناظرة وقواعدها حول الموضوع الذي يريدان المناظرة فيه.
الشرط الثاني: أن يكون المتناظران على معرفة بالموضوع الذي يتناظران فيه، حتى يتمكن كل واحد منهما من الإحاطة بعناصر القضية بكل جوانبها، فإذا تكلم لم يخبط خبط عشواء ولم يناقش في البديهيات بغير علم، وإذا ألزم بالحق التزم به من غير مكابرة.
الشرط الثالث : أن يكون موضوع المناظرة مما يجوز أن يجري فيه التناظر وتختلف فيه وجهات النظر، فالمفردات والبديهيات الجلية لا تجرى فيها المناظرة أصلا.
الشرط الرابع : أن يجري المتناظران مناظرتهما على عرف واحد ومصطلح متفق عليه، فإذا كان كلام أحدهما جاريا على عرف الفقهاء مثلا فلا يجوز أن يكون كلام الطرف الآخر جاريا على عرف النحاة؛ لأن المناظرة في هـذه الحالة لا يكون فيها قاسم مشترك يجمع الطرفين ويحرر محل النـزاع.