الاتصال عند رسول الله
ونجد في سنن النبي صلى الله عليه وسلم ما يصلح أن يكون قدوة ومثلا في إتقان مهارات الاتصال ، فالأحاديث الشريفة تنبئنا عن ذلك، فقد قال صلى الله عليه وسلم :
-
( رحم الله عبدا قال فغنم، أو سكت فسلم ) >[1] .
-
( أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم ) >[2] .
فإفشاء السلام يزيد صلة الود والاحترام بين الناس، والمبادرة به تولد الاطمئنان والراحة والاستعداد للتفاهم.
قال تعالى:
( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) (النساء:86) .
وفي مجال الكلام، بين صـلوات الله وسلامه عليه أن اللسان إذا استخدم في ما يضر، ولم يحسن توجيهه الوجهة الطيبة النافعة، فإنه سيكون وبالا على صاحبه،
( ... وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم ) >[3] . وكان صلى الله عليه وسلم إذا تحدث أوجز وأصاب المرام بأقل الكلام، واختار الألفاظ المناسبة للمقام، يستمع إلى محاوره باحترام ثم يفضي بذات
[ ص: 75 ] نفسه بأسمى الكلم وأبلغه، وأجمله توصيلا، وهو القائل:
( إن من البيان لسحرا ) >[4] و
( إن من الشعر لحكمة ) >[5] مشيرا بذلك إلى فضل الكلام الجميل على إقناع الآخرين والتأثير بهم كما يؤثر السحر. لكأن الكلام المعبر عن صدق الشعور وطبيعة الموقف يعد سحرا حلالا. لذا لا مناص من الأخذ بأهمية التكافؤ في عملية الاتصال.
فالجاهل بأدبيات التكلم والمحادثة يتخبط، ويتعجل، ويرفع صوته، ويصر على خطئه، ويرفض احترام الرأي الآخر وتفهمه، في حين أن العالم الداري بأسباب القول وفنونه يحاور بحكمة، ويستمع بحنكة، ويقلب الرأي، ويحترم وجهة نظر نده، فإذا فاز على هـذا الند فإنما فاز بقوة تأثير أدوات اتصاله، وإذا خسر فإنما كانت مهارات اتصال نده أقوى، وبراعته في إلقاء حججه وبراهينه أذكى وأنجع.
ولنا في منهج الاتصال عند سيد البشر صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فهو منهج يقوم على احترام إنسانية الإنسان قبل كل شيء، ومخاطبته وفق ما لديه من علم أو دين أو مكانة، وخير مثال على ذلك موقفه من
[ ص: 76 ]
ذلك الرجل الذي مر به وطلبه درهمين، فقال له: اذهب إلى
أبي بكر عسى أن يحسبهما دينا علي، ولما استغرب أحد الذين كانوا معه صلى الله عليه وسلم إجابته، قال له النبي: «ويلك.. كرهت أن أجمع على أخيكم ذلين، ذل السؤال وذل الخيبة»
>[6] .
فلنتأمل حسن جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جواب ضمن للسائل حقه النفسي، فبقيت نفسه سليمة من الكدر ومن الحقد، فقد تلقى جوابا يحترم شخصيته ويبعده عن المسـكنة والشعور بالمهانة، بسبب فقره، فما ازداد إلا حبا للرسـول صلى الله عليه وسلم وتقربا منه وتأسـيا به، وبذلك كسب النبي صلى الله عليه وسلم وده ونال أجرا عظيما على براعة أداة اتصاله، التي راعت الجانب الوجداني عند السائل، باستخدام أفضل المفردات المعبرة.
وإذا زدنا في تحـيل الموقـف فإننا نشـعر بحسـن اخـتيار رسول الله صلى الله عليه وسلم للألفاظ ولا سيما كلمة «عسى» التي تدل في هـذا السياق على مشاعر الود تجاه السائل، وعلى معنى الرجاء والأمل والدعاء بأن يستجيب
أبو بكر لطلب الرسول صلى الله عليه وسلم مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مطمئنا في قلبه إلى حسن استجابة أبي بكر، ويدل جواب
[ ص: 77 ] الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك على فن المجامـلة واللياقة، إذ أشعر السائل بأنه -أي الرسول- فقير مثله.
ولعلنا نستذكر أن كتبة الوحي تم اختيارهم وفقا لحذقهم في الكتابة، ولمهارتهم بأصولها وفنونها، ولعمق إيمانهم وتقواهم، كما كان حسن الصوت في قراءة القرآن الكريم مرغوبا في من يؤم الناس، واختير
بلال بن رباح ، رضي الله عنه ، مؤذنا بسبب حسن صوته في الأذان، وعمق إيمانه بالله، وشدة حبه للرسول صلى الله عليه وسلم .
ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثال في فن الاتصال، وذلك حينما نهض بالدعوة إلى الإسلام، وكانت مهمته مضاعفة الصعوبة؛ لأن من سيدعوهم إلى الإسلام أناس عريقون بدياناتهم الموروثة، وفيهم خصوم كثر أشداء، فعلمنا كيف ندعو الناس؛ إذ كان يتصل بهم في بداية الدعوة سرا، وفردا فردا، وبقي يدعو استسرارا ثلاث سنوات حتى نزول قوله تعالى:
( وأنذر عشيرتك الأقربين ) (الشعراء:214) .
ثم أعاد النظر في أسلوب اتصاله، فصعد
الصفا ونادى الناس بآبائهم:
( يا بني فهر ، يا بني عدي ...، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هـو، فجاء أبو لهب وقريش.. فلما اجتمعوا عليه أراد [ ص: 78 ] أن ينتزع منهم تصريحا بصدقه قبل أن يدعوهم إلى الإسلام، وكأنه أحس بأنهم قد يكذبونه، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغـير عليكم أكنتم مصـدقي؟ قالوا: نعـم، ما جربنا عليك إلا صدقا.. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال: أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: ( تبت يدا أبي لهب وتب ) ) >[7] .
وبعد ذلك جدد صلى الله عليه وسلم طريقة اتصاله بالناس مرة ثالثة وفق مسار الدعوة ونتائجها الأولى، فطفق يدعو القبائل القاصدة الحج، ويدخل الأسواق الشهيرة. واستمر يدعو إلى الإسلام بقوة عزيمة وحنكة تعبير، ودراية فائقة بنفوس الآخرين، إلى أن نصره الله سبحانه وتعالى .
ومن الحري الإشارة إليه فطنة الرسول صلى الله عليه وسلم في تخير المفاوضين الدعاة الذين يبعث بهم للتحاور مع الخصوم لإقناعهم في دخول الإسـلام، فأرسل إلى
النجاشي وقيصر وكسرى والمقوقس والحارث ابن أبي شمر وهوذه بن علي وحاكم عمان والبحرين دعاة عرف عنهم
[ ص: 79 ] شدة الإيمان أولا ثم براعة الاتصال القائمة على حسن الإقناع والتأثير وبلاغة اللسان ثانيا.
والقاعدة الإسلامية الأساسية في حوار (الآخر) هـي قوله تعالى:
( وجادلهم بالتي هـي أحسن ) (النحل:125) .
وهي قاعدة عامة وثابتة وصالحة لكل زمان ومكان. ومع علم الدعاة المسلمين بأصول الحوار وبمبدأ الإحسان في جدال (الآخر) ، إلا أن الله سبحانه وتعالى خص أهل الكتاب بآية تؤكد ضرورة أن يحسن المسلم جدالهم،
فقال عز وجل :
( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هـي أحسن ) (العنكبوت:46) .
أما عبارة
( هي أحسن ) فهي تأكيد حازم لما ابتدأت به الآية الكريمة:
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هـي أحسن ) فالحكمة مبدأ جامع لسائر أشكال الرفق والتسامح وحسن الخطاب واحترام رأي (الآخر) والصبر عليه. وقد
( قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله يحب الرفق في الأمر كله ) >[8] ؛ لأن الرفق جاذب ومحبب وميسر لكل تعقيد أو تعنت في الرأي، أما العنف في
[ ص: 80 ] الجدال فهو منفر وطارد:
( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) (آل عمران:159) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ينطق إلا عن ميراث، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة. وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحـلاوة، وحسن الإفهام، ومنحـه جوامع الكلم، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السـامع إلى معاودته، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعا، ولا أقصد لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح معنى، ولا أبين في فحوى من كلامه صلى الله عليه وسلم
>[9] .
وكذلك كان الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون، رضوان الله عليهم، يحسـنون التواصل مع الناس، وقد كان
عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاذقا بفن الاتصال وخبيرا بأساليب الكلام، يشهد على ذلك موقفه النقدي من شعر
زهير بن أبي سلمى ، إذ أعجب بأسلوب زهير وأشاد به: " «كان زهير لا يعاضل في المنطق، ولا يتبع حوشي الكلام» " وفي هـذا الرأي إشارة ساطعة إلى أهمية الكلام المبين
[ ص: 81 ] والألفاظ الناعمة الفصيحة في غير غرابة أو وعورة، لما في ذلك من تأثير قوي في المستمع.
والمتأمل في هـبات الخلفاء الأمويين والعباسيين للشعراء يقف على بلاغة الشعر وحسن إصابته للمعنى ولسمو المقام، ولما في نفس الخليفة من هـواجس وأفكار، فكان رئيس القوم يعطي على قدر استحسانه لفصاحة الشعر الملقى بين يديه. ولعل في قصة
تميم السدوسي مع
المعتصم إشارة بليغة إلى أن الكلام إذا جاء في موضعه وكان بليغا مؤثرا فإنه يحقق أهداف صاحبه. فعندما هـم المعتصم بقتل تميم، الذي كان قتل شخصا، أجلس تميم على النطع ( الجلد ) وحضر السياف. فقال المعتصم لتميم : ماذا تقول يا تميم؟ فقال تميم
أرى الموت بين السيف والنطع كامنا*** يلاحظني من حيثما أتلفت
وأغلب ظني أنك اليوم قاتلي*** وأي امرئ مما قضى الله يفلت
وما جزعي من أن أموت وإنني*** لأعلم أن الموت شيء موقت
[ ص: 82 ] ولكن خلفي صبية قد تركتهم*** وأكبادهم من حسرة تتفتت
إذا عشت عاشوا سالمين بغبطة*** أذود الردى عنهم وإن مت موتوا
فقال
المعتصم : «كاد والله يسبق السيف العذل» ثم عفا عنه.
ولما كان الشعر كلاما، فانظر ما فعل حسن الكلام لصاحبه.
وإذا نظرنا إلى الأمثال والحكم العربية فإننا نقف على عشرات منها تحث على إيجاز الكلام وبلاغته وحسن أدائه، وتحذر من الثرثرة والزيادة في المنطق على غير إصابة. ومن هـذه الأمثال والأشعار:
- خير الكلام ما قل ودل.
- لسانك حصانك إن صنته صانك
ما إن ندمت على سكوتي مرة*** ولقد ندمت على الكلام مرارا
[ ص: 83 ]