الاتصال في الحقبة الجاهلية
حفلت الذاكرة التاريخية العربية بمادة موفورة تتعلق بمهارات الاتصال في شكلها الأولي الفطري، فعندما كان العربي في الصحراء يبتهج لمقدم الضيف فيحييه بأطيب الكلام وأكرم الاستقبال ويطعمه أجود ما لديه، فإنما كان يعني -في ما يعنيه- دوام الصلة بينه وبين ضيفه، غريبا كان أم قريبا. فالوحدة في الصحراء قاسية مريرة، ولا بد للعربي البدوي من أنيس ولو لسويعات قليلة يتم فيها الاتصال والتعارف فتدوم المواصلة بعدئذ.
وقد حرص العربي البدوي، ولا سيما في العصر الجاهلي، على دوام ارتباطه بقبيلته وانتمائه لها، حاميا لها ومدافعا عنها بكل وسائله المتاحة، حتى لو قابلته قبيلته بالنكران والخصام، على نحو ما عرفناه بين طرفة بن العبد وقبيلته، أو بين المقنع الكندي وقبيلته أيضا، فقوم المقنع عاتبوه أشد العتاب وجحدوا فضله، مع أنه كان منعما متفضلا [ ص: 71 ] عليهم، لكنه قابل شـدة العتاب والجحود بتواصل متسام مع قومه، ولم يواجه قطيعتهم له بقطيعة مثلها، بل راح يعزز تواصله معهم محافظا على صلته بهم. ومما قاله في قصيدته
يعاتبني في الدين قومي وإنما ديوني في أشياء تكسبهم حمدا فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
وإن هـدموا مجدي بنيت لهم مجدا
هذا هـو قس بن ساعـدة الإيادي يشتهر بين الناس بسبب قدرته المتميزة على الخطـابة، فقد كان بليغا يتفـنن في التأثير في الناس وإقناعهم، يلون صوته وفق مستوى الأفكار، ويختار اللغة التي تصيب الهدف. [ ص: 72 ]
ثم جاء الإسلام فأثبت ما أثبت من خصال حميدة وعادات فاضلة وأعراف نبيلة، وزاد عليها بما ورد في القرآن الكريم، وبما جاء في الأحاديث الشريفة وسير الصحابة والتابعين الكرام من آيات كريمة وسنن نبوية وأقوال مأثورة حكيمة تنبئنا بحرص الفكر الإسلامي على تنمية قاعدة الاتصال بصفتها رابطة اجتماعية، تهدف إلى توطيد أواصر التفاهم وإنجاح مظاهر العلاقات بين الناس على تباين اتجاهاتهم.