المطلب الثاني: مكانة القضاء والقضاة في الحديث النبوي
أنزلت الشريعة الإسلامية القضاء منـزلة رفيعة. فهو عمل الأنبياء وصناعة الحكماء. ذلك أن القضاء وجد ليكون خادما للناس الذين من طبائعهم الاختلاف فيما بينهم والتخاصم. فالحاجة لوجود من يتولى فصل المنازعات وحل المشكلات بالعدل والحق والإحسان من غير جور ولا ميل نحو أحد الأفراد المتخاصمين ضرورة شرعية ومنطقية.
[ ص: 162 ] لذا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على القاضي الذي انتهج الطريق الذي ينبغي السير فيه في القضاء لإحقاق الحق وإبطال الباطل:
( إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) >[1] ؛
( لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هـلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها ) >[2] .
وكثيرة هـي الأحاديث النبوية التي تحض القاضي على العدل وتحذره من الظلم مما يشير إلى خطورة مسؤوليته عند الله إذا انحرف عن الطريق الذي ينبغي السير فيه في القضاء، وينوه برفعة مقامه إذا تمكن من إحقاق الحق وتحقيق العدالة بين المتنازعين:
( القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، رجل قضى بغير الحق فعلم ذاك فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة ) >[3] .هذا الحديث يشير إلى أهمية القضاء ومكانته عند الله وأهمية المسئوليات المنوطة بعهدة القضاء في الفصل في المنازعات والحكم فيها بما أنزل الله وما بينته سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وفيه أيضا تخويف ووعيد للقضاة الذين يتولون منصب القضاء دون أن تكون لهم المؤهلات الكافية، أو القضاة الذين يجورون في أحكامهم.
[ ص: 163 ] فالتحذير الوارد في الحديث منصب على الجائرين في أحكامهم المتبعين لأهوائهم، لأن الجور في الحكم من أعظم الذنوب وأكبرها..
( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان ) >[4] .
هذا التحوط من الجور جعل مهمة القاضي من أشق المهام، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( من ولي القضاء أو جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين ) >[5] . وفي هـذا تحسيس بخطورة هـذا المنصب الكبير، الذي تتعلق به الأموال والدماء والأعراض، وأن القاضي يبقى في جهد متواصل، وقلق نفسي مستمر إلى أن يتبين وجه الحق. ولعل من بعض معاني هـذا الحديث تشبيه الجهد والقلق بالذبح بغير سكين. وهذا يمثل صورة رائعة من صور المثابرة والتحري والبحث وسهر الليل والتماس الحق بكل وسائله.
ونفهم من هـذا، أن القاضي مسئول عن جميع تصرفاته العامة والخاصة ومسئوليته مزدوجة، فهو مسئول في الدنيا أمام القضاء جنائيا وأمام الأمة سياسيا ومسئول في الآخرة أمام أحكم الحاكمين.
ولعل ماجاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته من تنبيه إلى أهمية حفظ الحقوق وضرورة ردها إلى أصحابها، وتقديمه المثال الحي على ذلك بنفسه، يصلح أن يكون شعارا للقاضي في عمله، فقد
( قال صلى الله عليه وسلم : أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد (يقتص) منه، ومن [ ص: 164 ] أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه... وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقا - إن كان- أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس ) >[6] . هذه هـي الأسس والمبادئ والقيم التي جرى عليها النظام القضائي في الشريعة الإسلامية، وينبغي أن يعين القاضي من بين أكفأ الرجال قوة في الحق ونشاطا وأمانة. وفي
( حديث أبي ذر الغفاري صلى الله عليه وسلم ما يفيد ذلك قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر، إنك ضـعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ) >[7] .