مقدمة
الحمد لله، الذي أنزل على عبده الكتاب هدى وذكرى وتبصرة لأولي الألباب، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله والأصحاب.
وبعد:
فمـن رحمـة الله تعـالى بالبشريـة أن أنزل القـرآن؛ كما دل عليه قوله سبحانه في معرض الامتنان:
( ( الرحمن علم القرآن ) ) (الرحمن:1-2).
ومن أعظم نعم الله على جيل الصحابة أنهم اعتصموا بهداية القرآن، واستغنوا به عما سواه، وقد عبروا عن ذلك الاعتصام والاستغناء قولا وعملا، ومن أقوالهم في ذلك ما يروى
( عن علي ، رضي الله عنه، أنه قال: القرآن كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن [ ص: 25 ] إذ سمعته حتى قالوا ( ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ) ) من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم ) >[1] .
ولقد كانت ميزة جيل الصحابة أنهم أحسنوا التعامل مع القرآن، فأدركوا منطلقاته، وفهموا مقاصده، وتفاعلوا مع أساليبه، وفتحوا قلوبهم وعقولهم لتوجيهاته وأحكامه، وأسلموا نفوسهم له، وتركوا له مهمة إعادة صياغتها وتشكيلها من جديد، ولم يعارضوه بآراء العقول، ولا بأهواء النفوس؛ فأثمر ذلك في حياتهم برا وصلاحا وخيرا لم تشهد له البشرية مثيلا، فكانوا أطهر جيل، وأنبل مجتمع عرفته الإنسانية.
ولذلك فالحديث عن دور القرآن في إصلاح المجتمع ليس حديثا نظريا يحلق في سماء المثالية والخيال؛ ولكنه حديث تسنده التجربة العملية الواقعية، التي استطاع القرآن من خلالها أن يخرج المجتمع المسلم الأول، مجتمع الصحابة، وهي تجربة معجزة بكل ما تحمـله كلمة الإعجاز من معنى؛ وإلا فمن كان يتصور أن يخرج من بين جنبات الصحراء العربية القاسية؛ ومن بين حياة البداوة والوثنية؛ ذلك المجتمع السامي في أفكاره، الرفيع في أخلاقه، المتحضر في سلوكه، المرهف في أحاسيسه، القوي في إيمانه، المتفاني في خدمة دينه، الكبير في آماله وطموحاته، الرحيم ببني الإنسان، وبكل مخلوقات الله؟!
[ ص: 26 ]
ولقد شهد الله سبحانه وتعالى لذلك المجتمع بأنه خير مجتمع برز إلى الوجود الإنساني،
فقال:
( ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ) (آل عمران:110).
فهذه الآية تقرر أن مجتمـع الصحـابة أخرج إلى الوجـود بعد أن لم يكن، وفاعل الإخراج هنا هو القرآن وليس غيره، فهو الذي أخرج مجتمع الصحابة؛ ولا تزال لديه القدرة على إخراج نماذج اجتماعية وفردية خيرة راقية؛ لأن تلك هي مهمته التي أنزل من أجلها: أن يخرج الأفراد والمجتمعات من ظلمات الكفر والجهل والشر والظلم والفساد، إلى نور الإيمان والعلم والخير والعدل والصلاح،
يقول تعالى:
-
( ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) ) (إبراهيم:1).
-
( ( هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم ) ) (الحديد:9).
-
( ( قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) ) (المائدة:15-16).
والقرآن الذي أخرج مجتمع الصحابة وجعل منهم خير أمة أخرجت للناس، هو القرآن ذاته الذي بين أيدينا اليوم، وما كان لدى الصحابة من
[ ص: 27 ] أدوات للإدراك والفهم والتأثر والعمل، نحن نملك مثلها اليوم، والفطرة الإنسانية أيا كان زمانها أو مكانها لا تزال فيها بذرة الخير، ولا يزال لديها الاستعداد، بصورة عامة، لقبول الحق والانقياد له.
وهذه الحقيقة يجب أن لا تغيب عنا عند حديثنا عن دور القرآن في إصلاح مجتمعاتنا المعاصرة، فالقرآن لديه القدرة على إصلاح مجتمعاتنا، وإعادة تشكيلها وصياغتها لتكون أقرب إلى الخير والفضيلة والصلاح، فليست المشكلة في القرآن كمنهج للتغيير والإصلاح، ولا هي في المجتمع المعاصر؛ لأن النفس الإنسانية واحدة، ولا يزال لديها الاستعداد الفطري لتقبل الحق، والانفعال به، والانقياد له، والعمل بموجبه.
ولكن المشكلة إنما تكمن في أسلوب وطريقة تعاملنا مع القرآن؛ فمما لا يخفى على العاقل المتأمل في واقع حياة المسلمين -هذه الأيام- أن المسلمين قد سلكوا طرائق خاطئة، ومناهج قاصرة في تعاملهم مع كتاب الله؛ فكانت نتيجة ذلك أن حيل بينهم وبين الاستفادة من القرآن في تهذيب نفوسهم، وتقويم اعوجاجهم، وإصلاح مجتمعاتهم، وترقية حياتهم.
ولذلك فالخطوة الأولى لتفعيل دور القرآن في إصلاح مجتمعاتنا المعاصرة هي أن نحسن التعامل مع القرآن؛ لأننا يوم أن نحسن التعامل معه فإنه سيفيض علينا من نور هدايته ما تستقيم به حياتنا، وتزكو به أحوالنا.
والبداية لذلك إنما تكون من الفهم الواعي، والإدراك المستنير لمهمة القرآن العملية، ومضامينه الاجتماعية، ورسالته الحضارية، وملاحظة البعد
[ ص: 28 ] الواقعي للنصوص القرآنية، ولعل في أسباب النـزول ما يلفت الأنظار إلى ذلك؛ فليست أسباب النـزول إلا تعبيرا عن استجابة القرآن لمستجدات الحياة، وعنايته بقضايا الناس، ومسارعته إلى تقديم الحلول والمعالجات، التي تجعل حياة الفرد والمجتمع أقرب إلى الخير والفضيلة والصلاح.
ومن المهم هنا أن ندرك -حق الإدراك- أن القرآن كتاب خالد، وذو عطاء متجدد ومتفرد، فلا يحده زمان، ولا يقيده مكان.. ولكنه جاء ليستوعب الزمان والمكان كله، وليضع للبشرية -أيا كان زمانها أو مكانها- منهاج حياتها، وليقدم العلاج الناجع لأدوائها ومشاكلها، ولذلك يقرر العلماء في أسباب النـزول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهو ما يعني أن نصوص القرآن متحررة من قيود الزمان والمكان والأشخاص والأقوام.
ومما يجب أن نأخذه -هنا- بعين الاعتبار أن القرآن من صفاته التيسير،
قال تعالى:
( ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) ) (القمر:32)،
وقال سبحانه:
( ( كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ) ) (الأعراف:2)،
فلن يجد حملة المنهج القرآني مشقة في فهمه وإبلاغه، ولا حرجا في الدعوة إليه والعمل به، أيا كان الزمان أو المكان.
وأعتقد أننا مطالبون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بإعادة الاعتبار للهداية القرآنية بمعناها الشامل السابغ، الذي يستوعب كل مناحي الحياة،
[ ص: 29 ] فمن أخطر الإصابات والعلل التي لحقت بفكر وتدين كثير من المسلمين: تلك النظرات الجزئية القاصرة نحو كتاب الله، وانحسار مفهوم التعبد به إلى مجرد التلاوة، التي لا تعني أكثر من ترديد الكلمات والألفاظ، حتى صار حال أكثرنا مع القرآن كما قال الحسن البصري ، رحمه الله: أنزل القرآن ليعمل به، فاتخذ الناس تلاوته عملا
>[2] !
وأعتقد أن إخراج المسلمين من هذه الحال السلبية في تعاملهم مع القرآن هو ما ينبغي أن يكون له الأولوية لدى النخب الفكرية والعلمية والدعوية الإسلامية، والله المسئول أن يلهمنا جميعا البصيرة في الفكر، والإخلاص في العمل.
وبعد:
فهذا البحث هو جهد مقل، ومحاولة متواضعة للوقوف على بعض وسائل القرآن العملية، وطرائقه المنهجية في إصلاح المجتمعات الإنسانية، والله أسأل أن يتقبل مني هذا العمل، والحمد لله أولا وآخرا.
[ ص: 30 ]