عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي اختار الأمة المسلمة لوراثة النبوة والكتاب،
فقال تعالى: ( ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) ) (فاطر:32)،
فكانت بهذا الكتاب، القرآن، خير أمة أخرجت للناس، وكانت بقيم القرآن المعيارية الأمة المنوط بها تصويب مسيرة البشرية، وتحقيق إنسانية الحضارة، والشهادة على الفعل البشري بالخطأ أو الصواب،
قال تعالى: ( ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ) (البقرة:143)،
فهذا الشهود الحضاري، البعيد بطبيعة مصدر قيمه ومعاييره عن التحيز والتمييز والعنصرية والتأله البشري، والهادي للتي هي أقوم إنما تحقق بفضل هذا القرآن الخالد، الذي يمثل خطاب السماء الأخير للعقل الإنساني والذي انتهت إليه وتمثلت فيه تعاليم الأنبياء جميعا، واكتمـلت به المسيرة الإنسـانية، وتحقق فيه الأنمـوذج الكامل الخالد، [ ص: 5 ] يقول تعالى: ( ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ) (المائدة:3).
والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي تجلى القرآن في حياته وسلوكه، وقدم الأسوة والأنموذج في تحويل الفكر إلى فعل، والقيمة إلى سلوك، حيث المهمة الكبرى للنبوة تنـزيل القرآن على واقع الناس، وتقويم سلوكهم به، وإعادة صياغة الإنسان والمجتمع، والتدليل على أن مبادئ هذا القرآن تقع ضمن عزمات البشر، فلقد ( وصفته السيدة عائشة ، رضي الله عنها، بقولها: كان خلقه القرآن ) ، فالقرآن مصدر سلوكه، وحركته، وحكمه، ومعرفته، ودليل حياته ومعاملاته، يصدر عنه في كل تحركاته، في السلم والحرب، والتشريع والعبادة، والأخلاق والمعاملة، والدعوة والمحاججة، وبكلمة جامعة: كان خلقه القرآن.
وبعد:
فهذا «كتاب الأمة» السابع والعشرون بعد المائة: « من وسائل القرآن في إصلاح المجتمع»، للأستاذ أمين نعمان الصلاحي ، في سلسلة «كتاب الأمة»، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر، في محاولاته الدائبة الانطلاق من معرفة الوحي لبيان الشروط وتوفير الظروف لمعاودة إخراج الأمة المسلمة واسترداد خيريتها استجابة لقوله تعالى:
( ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ) (آل عمران:110) [ ص: 6 ] وتأهيلـها للقيام بمهمتها في هداية الإنسانية وإلحاق الرحمة بها وتحقيق شهودها الحضاري.
ذلك أن الأمة المسلمة هي الأمة الوحيدة، تاريخيا، التي تشكلت من خلال كتاب (القرآن)، تشكلت من خلال عقيدة وفكرة، الأمر الذي يليق بالإنسان ويرتقي بإنسانيته ويمنحه حرية الاختيار، في الوقت الذي كان فيه تشكل الأمم الأخرى حبيس الأمور والعوامل القسرية كالعرق واللون والقوم والبيئة والجغرافيا والتاريخ؛ فالأمة المسلمة أمة جاءت ثمرة لفكرة وعقيدة مختارة، وتأسست على أساس مهمة حمل الخير للناس، فجاءت أمة إنسانية بكل معنى الكلمة، حضارتها إنسانية شاركت فيها جميع الأجناس والأعراق والألوان، لدرجة قد يصعب معها تلوينها بلون معين، فقرآنها وخطابها إنساني الرسالة، ولو كان عربي الخطاب.
وعلى الرغم من عوادي الدهر وخضوع الأمم للدورات الحضارية، وانتقاص بعض عرى الإسلام، وما لحق الأمة من إصابات بسبب هجر القرآن نتيجة للعدوان أو الإجرام أو الجهل:
( ( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) ) (الفرقان:30)،
( ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ) ) (الفرقان:31)
- ولعل أهم تلك الإصابات تاريخيا هي في انفصال السلطان عن القرآن، وسقوط السلطان السياسي- فإن أمة الكتاب، أمة الفكرة، أمة العقيدة، بقيت [ ص: 7 ] مستمرة وممتدة وخالدة، تتأبى على عوادي الزمان والمكان؛ ذلك أن أمم الأشياء تنقرض وتبيد وأمم الأفكار تتوهن فتتجدد ولا تموت.
فالقرآن مصدر عقيدة هذه الأمة ووعاء أفكارها وقيمها؛ هو محل إجماعها، تاريخيا، ومصدر مشروعيتها العليا وشرعيتها الاجتماعية.
وقد تكون من أهم مؤشرات ذلك أن الفرق والملل والنحل والطوائف والمذاهب، التي تشكلت ضمن الفضاء الإسلامي، تاريخيا، حاولت جميعها استمداد شرعيتها من القرآن، ولم تخرج ولو ظاهرا عن مظلة القرآن، وإن كان الكثير منها حاول التحريف ولي أعناق النصوص في تفسيرها لتوظيفها والاستدلال بها لإثبات رأيها أو فكرتها أو مذهبها وشرعيتها، إلا أنها تضاءلت وانكمشت وخرجت من الساحة ولم يعد لها إلا القيمة التاريخية، إن صح التعبير، ولم تستطـع الامتداد بالتحريف، ولعل هذا من دلائل الحفظ الإلهي للقرآن والبيان، من بعض الوجوه،
يقول تعالى: ( ( إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ) ) (القيامة:17-19)،
وبذلك سقط رأي المفسر والشارح وبقي نص الشارع الخالد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حيث الخاتمية تقتضي استمرار النص سليما صحيحا كما نزل، ليستقيم بذلك أمر التكليف وتتحقق عدالة المسئولية.
وهذا يعني -من بعض الوجوه، كما أسلفنا- أن القرآن دون سائر الكتب السماوية والوضعية محل إجماع ومصدر مشروعية للأمة، سواء في [ ص: 8 ] ذلك من حاول الخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ (التحريف بالتأويل) لتحقيق المشروعية لفكرته وطائفته ونحلته، أو كان ذلك بوضع حديث مكذوب يؤيد رأيه، أو تمحل وتعسف في التأويل والتفسير، الأمر الذي أدى في المقابل إلى انبراء العلماء العدول لحماية النص القرآني من التأويل والانتحال والغلو، ليستمر القرآن خالدا سليما، ويستمر البيان حارسا وحاميا لمعنى القرآن ومقاصده، وتحقيقا لخلود القرآن نفسه، ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين ) (أخرجه البيهقي ).
لذلك نقول: إن مجموعة الخصائص ( ( وبينات من الهدى والفرقان ) ) (البقرة: 185)، التي يتمتع بها القرآن وتؤمن بها الأمة، والمضامين والمقاصد والقيم، التي يتضمنها تجعله دون سواه منجـم العطاء ومرتكز النهوض، كما تجعله محور المجاهدة والجهاد والبناء والعطاء، كما تجعله حصن الحماية من الذوبان في مراحل الوهن الحضاري، وسبيل الارتقاء ومعاودة النهوض والعطاء ( يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها ) (أخرجه الترمذي ، وقال: هذا حديث حسن صحيح ).
وبذلك يمكننا أن نقول: إن الدراسات التي تمحورت حول القرآن، في الحقول المعرفية جميعا، منذ نزوله وحتى اليوم، وتوسعت وامتدت وتشعبت أكثر من أن تحصى، كثمرة لخلود القرآن، الذي يدعو دائما للنظر [ ص: 9 ] والاجتهاد، في ضوء مستجدات الحياة واستمرار تكشف الآيات في الأنفس والآفاق؛ إن هذه الأبعاد المعرفية والثقافية والتشريعية وما يترتب عليها من تغيير في حياة البشرية لم يظفر بها أي كتاب أو مذهب أو فلسفة.
فالقرآن كان ولا يزال محور التفكير، ومحرك الإنتاج الذهني للناس جميعا، سواء في ذلك من يدافع عنه أو من يحاول النيل منه؛ وهو مصدر التشريع والأخلاق والعبادة والمعاملة والسلوك والمعرفة والإجابة عن الأسئلة الكبرى في حياة الإنسان؛ هو دليل الحياة ومصدر رؤية ما بعد الحياة، هو مصدر الفاعلية الفكرية والعلمية والثقافية ومحاولة الارتقاء إلى مدارج الكمال ( ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) ) (الإسراء:9).
ولعلنا نقول: إن القرآن الكريم هو أعظم ما تمتلك الأمة المسلمة من ثروة، بل هو ثروة الإنسانية جميعا.
إن القرآن يمثل الخطاب السماوي الأخير للبشرية؛ إليه انتهت أصول الرسالات السماوية، وكمل به الدين الإنساني العالمي، فالمؤمن به يجتمع له الإيمان بأنبياء الله جميعا وثواب هذا الإيمان من لدن آدم وحتى خاتم الأنبياء، عليهم السلام.
لذلك نقول: إن هذا الفضاء الإنساني الكبير، والتجارب المتعددة، وعلاقة الأمم المتنوعة بالنبوة أضافت بالقرآن لأعمار الأمة أعمارا، ولتجربة الأمة تجارب الأمم المتعددة، ولإيمان المؤمنين آفاقا تجاوزت الزمان والمكان لتقف بالقرآن على خط النهاية من الرسل، الأمر الذي يؤهلها بالقرآن [ ص: 10 ] للشهادة والقيادة لتكون ( ( خير أمة أخرجت للناس ) ) (القيادة) ،
( ( لتكونوا شهداء على الناس ) ) (الشهادة)، ذلك أن الأمر (الشهادة والقيادة) لم يأت من فراغ، وبدون مؤهلات، بل تحقق بالاستمساك بالذي يهدي للتي هي أقوم (القرآن) الذي تشكلت من خلاله الأمة، وامتدت به، وحميت به من الذوبان والانقراض، وانطلقت به من الأمية إلى العلم، ومن البداوة إلى الحضارة، من الفرقة إلى الوحدة؛ فمتى نعي أبعاد ذلك كله ونعزم العزيمة الصادقة بالعودة إلى القرآن، وأخذه بقوة، وذكر ما فيه:
( ( خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه ) ) (البقرة:63)،
( ( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ) ) (الأنبياء:10)
وقضية أخرى ليست أقل شأنا في هذا السياق، وهي أن القرآن هو النص السماوي الوحيد الذي وصل بطريقة علمية صحيحة تفيد اليقين، ورد بالتواتر، والتواتر في اصطلاح العلماء، هو: رواية الجمع عن الجمع، الذي يحيل العقل تواطؤهم على الكذب؛ والواقع الذي يحيط بالقرآن ما يزال يشهد بذلك، فلقد نقل مشافهة مقروءا ومحفوظا كما نزل، كما نقل مكتوبا بالرسم نفسه، الذي دونه فيه كتاب الوحي.
فهو بذلك يعتبر، من الناحية العلمية والموضوعية والوثائقية والتاريخية، أقدم وأصح وثيقة وردت بطريق علمي صحيح، لذلك فقد لا نستغرب أن الكثير من علماء التاريخ والتوثيق من غير المسلمين رأوا فيه المصدر الثقة للتعرف على تاريخ الأمم السابقة وعلى تعاليم النبوات السابقة وتاريخها [ ص: 11 ] ومسيرتها، فهو مصدر الدين، ومصدر النبوة، ومصدر صدق الأنبياء وصحة نبوتهم، ومصدر التاريخ الإنساني، ولعل ذلك ما ورد في إشارة واضحة في سورة المائدة
وهي قوله تعالى: ( ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ) ) (المائدة:48)،
فالهيمنة تعني -فيما تعني- التصويب وبيان الخطأ، وتحديد مواطن الانحراف والتحريف، وتبيين علل التدين التي لحقت بالكتب السماوية والنصوص الدينية على أيدي الأحبار والرهبان ورجال السلطان:
فهل أفسد الدين إلا الملوك ورهبان دير وأحبارها
إن الوسـائل العلميـة، التي توافرت للنص القرآني، محفوظا كما نزل، لم تتوافر لأي نص سماوي آخر، ولعل ذلك من لوازم الخاتمية، حيث يتوقف التصويب من الوحـي؛ ومن لوازم الخـاتمية أيضـا صحة خطاب الناس وما يترتب على ذلك من مسئوليات؛ كما أن من لوازم الخلود الاستجابة لكل مستجدات الحياة من جانب آخر.
فلقد تعهد الله بحفظـه دون سـائر الكتب السمـاوية،
قال تعالى: ( ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ) (الحجر:9)،
وقال بالنسبة إلى آلية حفظ الكتب السماوية السابقة: ( ( بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ) ) (المائدة:44)،
وبذلك فقد أوكل أمر حفظها ونقلها وإيصالها للبشر؛ وهذا فيما نرى من لوازم الخاتمية للنص القرآني، إذ يحيل العقل والشرع أن يخاطب الناس بنصوص منحولة تعوزها الصحة والصواب. [ ص: 12 ]
ومن الأمور اللافتة أن حفظ الله للقرآن ليس تنـزيله مكتوبا على ألواح تحمله الملائكة وتحرسه وتنقله من جيل إلى جيل، بعيدا عن فعل وفاعلية البشر، وإنما تحقق حفظه من خلال عزمات البشر وأفعالهم وبما وفر الله له ويسر وألهم من وسائل وأدوات ومناهج توثيق، حيث كما هو معلوم في مظانه من كتب العلم الشرعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد نزول الوحي (القرآن) اتخذ كتابا متخصصين بكتابة القرآن.
ولمزيد من الدقة والحماية وتحقيق أعلى درجات الحفظ منع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتب عنه غير القرآن، ( فقال: لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحـه ) (أخرجه مسـلم )، حـتى لا يختلـط القرآن بكـلام الرسول صلى الله عليه وسلم علما بأن السـليقة العربية، التي كان عليها القوم في ذلك الزمان، قـادرة على التفـريق بين أسلوب القرآن المعـجز وكلام النبـوة أو كلام الناس؛ ونجـد أنه على الرغـم من مرور هـذا الزمن المتطـاول وما لحق الناس من فشـو اللحن وانتشـار العـامية وضعف التذوق فإنه ما يزال من السهـل التمييز بين أسـلوب النص القرآني المعجـز، وكلام النبـوة على فصاحته وبلاغته، وكلام الناس؛ وهذا دليل على الإعجـاز على إلهية النص القرآني وبشرية الحديث الشريف، على الرغم من أن التلقي جاء من مصدر واحد، ذلك أن مصـدر النص القرآني هو الله ومصدر الحديث هو الرسول صلى الله عليه وسلم. [ ص: 13 ]
ومبالغة في الحفظ والتدقيق والاطمئنان إلى سلامة الحفظ كان جبريل ، عليه السلام، ينـزل على الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان من كل عام، ويدارسه القرآن، حتى إذا كان آخر رمضان قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مدارسة القرآن مرتين، على خلاف ما كان من المدارسات السابقة.
( فعن ابن عباس ، رضي الله عنهم، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضـان حـين يلقاه جبريل، وكان جبريل، عليه السلام، يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل، عليه السلام، كان أجود بالخير من الريح المرسلة ) (أخرجه البخاري )؛ ذلك أن عطاء القرآن وعطاء رمضان وعطـاء الصيام عطـاء غير محـدود؛ إنه كالريح المرسلة، لا يقف أمامها أي عائق.
هذا إضافة إلى الحفظة، الذين يتناقلونه مشافهة، وما تؤديه الصلوات الجهرية من حراسة ورقابة تشارك فيها الأمة وتستشعر مسئوليتها تجاه ذلك.
فشهر رمضان كان ولا يزال شهر القرآن، فيه نزل وفيه كانت تتم المدارسة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وجبريل أمين الوحي، عليه السلام، وفيه تنشط المحاريب المستمرة في تلاوة القرآن، والتزود من عطائه في الصلوات المفروضة، ويستمر قيام مراكز التحفيظ والخلاوي والمدارس القرآنية، إضافة إلى التفنن في طباعته وكتابته على اعتبار أنه كان ولا يزال محل التباري بفن الخـط العربي؛ والرسـم القرآني كان وراء فن الخط وتشكيله؛ إضافة إلى [ ص: 14 ] ما تحقق من الارتقاء باللغة إلى مستوى محاكاة ومقاربة معجزة القرآن؛ كل ذلك يمكن أن يعتبر لونا وبعدا من أبعاد تعهد الله بحفظه من خلال عزمات البشر -كما أسلفنا- كما يعتبر لونا وبعدا من أبعاد نقله من جيل إلى جيل أو من جمع إلى جمع، يحيل العقل تواطـؤهم على الكذب، بطريقة علمية تفيد اليقين وتمنح الاطمئنان لصحة النص وسلامة خطابه للمكلفين في كل زمان ومكان.
لذلك نعاود القول: إن القرآن هو أعظم ثروات المسلمين، وحبل الله المتين، الذي يمسك المؤمنون بطرفه ويتصلون بالطرف الآخر أو من خلاله بالله، خالق الكون، واهب الحياة والموت ( ( والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين ) ) (الأعراف: 170).
ولعل من الأمور اللافتة، التي تضمن استمرار هذا التواتر في النقل وهذه الجموع في التلقي والتعامل مع القرآن، أن القرآن خطاب أمة، وليس خطاب نخبة، خطاب للناس جميعا، بمن فيهم النخبة، لذلك فهو ليس حكرا على فئة أو طائفة أو طبقة من رجال الدين أو الكهنوت، إنما هو خطاب ميسر للذكر، كما وصفه الله تعالى بقوله:
( ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) ) (القمر:17)،
ومن أيسر الأمور وأروع المشاهد أن نرى القرآن بيد الطفل المميز، يتلو ويراجع ويحفظ ويتعلم، كما نراه في يد الشيخ بالغ الكبر ضعيف الهمة والبصر، وما بينهما من أجيال مقبلين على مأدبة القرآن؛ ولا شك أن لهذا دلالاته الكثيرة ليس أقلها استمرار الحفظ والنقل والتلقي [ ص: 15 ] والتعليم والاكتساب من نضح القرآن على النفس والمجتمع بكل طبقاته وأعماره، الأمر الذي لم يتوفر لأي كتاب في تاريخ البشرية.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن بعض أبعاد هذا التيسير أن القرآن مصدر الحياة كالماء، الذي يحتاج إليه ويشربه الكبير والصغير والصحيح والمريض ويفيد منه الجميع، ولا يضر أحدا، كل بقدر إمكاناته وثقافته وعلمه وسنه، فهو عطاء لا ينفد على الدهر، حتى الإنسان نفسه عندما يراجع التلاوة والحفظ يجد هذا العطاء متجددا بنفسه، فكلما عاد إلى التلاوة اكتشف أبعادا جديدة في الأنفس والآفاق، وكلما تقدم في السن والعلم والعقل كلما وجد نفسه بالقرآن وكأنه يقرأه لأول مرة، وكلما أعاد التلاوة كلما تحقق بكشف إنساني جديد، وأدرك الكثير من المقاربات للحالات الإنسانية التي تمر به، أو وجد حـلا لمعاناته، أو تفسـيرا لما تزخر به الحياة؛ وبالإجمـال: فإن القـرآن عطاء لا ينفد، وهذا مؤشر من مؤشرات الخلود والتيسير للذكر، فكل يأخذ بقدر استعداده،
يقول تعالى: ( ( فسالت أودية بقدرها ) ) (الرعد:17).
وعلى الرغم من أن تاريخ الخطاب القرآني مضى عليه ما يقارب خمسة عشر قرنا، وعلى الرغم من التقدم الكبير في الحضارة والثقافة والعلوم، وخاصة علوم الإنسان، مع ذلك لم تسجل ولن تسجل مستقبلا إصابة واحدة على هذا القرآن، الذي وصفه الله تعـالى بقوله:
( ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) ) (في الحاضر والمستقبل) (من الماضي) (فصلت:42). [ ص: 16 ]
وقد يكون من أعلى المقاصد التي سعى القرآن إلى بنائها في حياة الإنسان: إيقاظ العقل، وتحريك التفكير، ولفت النظر إلى أهم أدوات التفكير وآلياته، من المقايسة والمقارنة والبرهان والاستدلال والاستنتاج والاعتبار والتدبر والنظر والملاحظة والمناظرة والمجادلة والحوار.
وقد لا يكون مستغربا أن ندرك أن قصص الأنبياء، تاريخيا، تمثل مراكز للتدريب على الحوار للوصول إلى إظهار الحق وإبطال الباطل، فالإيمان في القرآن وبالقرآن ثمرة للنظر والتفكير والبرهان،
فعنوان: ( ( هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) ) (البقرة:111)
ليس شعارا قرآنيا فقط بل شعيرة وقيمة عملية في حياة الناس.
فالإيمان الذي دعا إليه القرآن إنما هو ثمرة للنظر والتفكير والاختيار، لذلك نعى على الذين يعطلون عقولهم ويسقطون في الآبائية والتقليد ويلتحقون بالبهائم التي تسيرها الغريزة ويعوزها العقل والاختيار
( ( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) ) (البقرة:171).
فالعقل في القرآن مصدر الاجتهاد والقياس وبيان الحكم الشرعي، في إطار نصوص الوحي، فالدين في القرآن محرك للعقل والبحث والنظر، ودافع للنهوض، في الوقت الذي كان الدين قبل القرآن قائما على التسليم والتلقي وإلغاء العقل (اطفئ سراج عقلك واتبعني). [ ص: 17 ]
والتفكير في القرآن فريضة يؤجر المؤمن عليها؛ والتفكير كان في الأديان المعمول بها قبل الإسلام جريمة يعاقب عليها الإنسان، وبذلك أصبح الدين على أيدي البشر عائقا ومانعا من النهوض، فكان لا بد من إقصائه عن الحياة وفصله عن شئون المجتمع.
وهنا قضية تتطلب إعادة النظر والتفكير والتقويم والمراجعة، وهي أن هذا القرآن العظيم، أقام أمة وبنى حضارة وشكل ثقافة وكان محل الوحدة الجامعة والمشروعية الكبرى للأمة، في مراحل حياتها كلها، كان منطلق النهوض، والحصن من السقوط والذوبان وذهاب الريح، فكم من الأمم والحضارات سادت ثم بادت عدا الأمة المسلمة، التي بالقرآن، أو ببقايا استمساكها بالقرآن، استعصت على السقوط وأبت الخضوع للدورات الحضارية المعروفة في النهوض والاستواء ومن ثم السقوط، وإن أصابها بعض الأذى،
يقول تعالى: ( ( لن يضروكم إلا أذى ) ) (آل عمران:111)،
ذلك أن الموت والانتهاء أمر يتعارض مع خلود الرسالة التي تحملها والخاتمية للنبوة التي تؤمن بها؛ فإذا كان نص القرآن صحيحا كما نزل، خالدا مجردا عن حدود الزمان والمكان، قادرا على الإنتاج والتوليد في كل زمان ومكان، وإذا كانت مرحلة السيرة وبناء الأنموذج العملي لتنـزيل آياته على واقع الناس، وإذا كانت التجربة الحضارية التاريخية، التي استوعبت جميع الحالات الإنسانية ماثلة للعيان، يبقى السؤال الكبير مطروحا بشدة: [ ص: 18 ]
إذا كان القـرآن هو القرآن، والإنسـان هو الإنسان، فلماذا توقف عن البناء والعطاء المأمول؟ ولماذا توقفت أمة القرآن عن الشهـادة والقيادة؟ وما هي العوائق التي تحول دون معاودة الإخراج للأمة من جديد؟
والإجابة بقدر ما هي بسيطة بقدر ما هي معقدة ومتراكبة ومتداخلة؛ ذلك أن السبب -فيما نرى- هو الخلل الكبير الحاصل في التعامل مع القرآن وعدم امتلاك الفقه والأدوات التي تمكن من التجسير بين قيمه وأنشطة الحياة ومسالك الإنسان، في ضوء الاستطـاعات المتوفرة والظروف المحيطة؛ هو سوء التعامل؛ هو غياب التدبر لآياته، الذي يمكن الإنسان من البصيرة والتـدبير؛ هو غياب فقه البينات والهدى والفرقان، هو بكلمة مختصرة:
الهجر ( ( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) ) (الفرقان:30)؛
الهجر بكل آفاقه وأبعاده؛ حتى ولو حفظناه وتلوناه دون أن نتدبره ونعمل به فالهجر يبقى قائما.
ولعل الإشـكالية في فهمنا المتخلف الذي ينعكس على النصوص، ( فقوله صلى الله عليه وسلم: خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) (أخرجه البخاري ) فهمنا منه من يحفظه بذاكرته ولو لم يعمل ذكاءه في تدبر آياته والانتفاع بعبره، حتى باتت التلاوة والحفظ والنقل والتفنن في الرسم والخط هو غاية التعامل مع القرآن وتجنب هجره، الأمر الذي يذكرنا بقولة الحسن البصري ، رحمه الله، التي بتنا اليوم نتلبس بها بكل أبعادها: إنما نزل القرآن ليعمل به فجعل الناس من تلاوته عملا. [ ص: 19 ]
ونحن هنا لا نقلل من شأن الحفظ والتلاوة وما يترتب عليهما من ثواب وأجر وسبيل إلى التدبر والاهتداء إلى العـبر وسنن السقـوط والنهوض، وإنما الذي نود قوله: إن الحفظ والتلاوة هو طريق الوصول إلى التدبر والتأمل والتفكير والتدبير لشئون الحياة انطلاقا من القرآن؛ ويبقى السؤال الكبير: كيف نتعامل مع القرآن، خاصة وأن تعاملنا القائم لا يحقق مقاصد القرآن وينـزله على حياة الناس بقدر استطاعتهم ومن خلال ظروفهم؟
وإصابة أخرى قد لا تقل شأنا عما أشرنا إليه، وهي التوهم أن القرآن، دليل الحياة، إنما هو كتاب خطط وبرامج، يكفي فيه أن نعلن أنه دستورنا، وأن الإسلام هو الحل لإشكالياتنا؛ وعلى الرغم من أن هذا صحيح بعمومه وإطلاقه، شريطة أن يستتبع باجتهادات وبرامج وخطط واستراتيجيات تنطلق من مرجعية القرآن، بحسب مشكلات الإنسان الفردية والاجتماعية والتنموية والسياسية والاقتصادية... إلخ، إلا أنه لا بد أن ندرك أن القرآن إنما هو كتاب قيم ومعايير ومحددات وتوجهات، والإنسان محل التنـزيل، ووسيلته، وهو المنوط به تنـزيل الآيات على واقع الناس ضمن خطط وبرامج لفقـه الواقع واستطـاعاته وظروفـه، كمـا تفهم وتفقه من النص القرآني.
ذلك أن رفع شعار: الإسلام هو الحل، والقرآن دستورنا، وتركه معلقا فوق رأس الجماهير المؤمنة ومحل نظرها وتطلعها دون تقديم البرامج والخطط والاستراتيجيات المنطلقة من قيم القرآن وتحويل هذه الشعارات إلى أعمال [ ص: 20 ] وشعائر وممارسة، نخشى أن يؤدي ذلك إلى إجهاض هذه القيم العظيمة، وإقامة السدود النفسية بين الإنسان وبين القرآن، وبذلك يرفع القرآن من الواقع إلى الرفوف، ومن العمل إلى الهجر، وتجعل مجرد تلاوته عملا يتوهم معها الخروج من عهدة التكليف بعدم الهجر.
فلذلك نقول: إن رفع هذه الشعارات دون خطط تنـزيل وبرامج عمل قد يؤدي إلى القيام بأعمال وممارسات سلبية، ويدفع إلى تصرفات وألوان من التدين المغشوش والفكر الأعوج والغلو والتطرف الخطير، حيث النظر كليل، والفقه قليل، والحماس الزائد المتوثب دون فقه واختصاص يؤدي إلى إلغاء عمل وعطاء الحواس.
القرآن منهج حياة كامل، ودليل عمل، ومصدر قيم، ودستور إصلاح وبناء عقيدة، ومصدر تشريع، يقدم رؤية للحياة، ابتداء من النشأة الأولى (بدء الحياة) وحتى النشأة الآخرة (انتهاء الحياة)، ويجيب عن الأسئلة والاستفهامات الكبرى الخارجة عن ساحة العقل ونطاق الحواس، ويقدم لإنسان الرسالة الخاتمة تجربة النبوة التاريخية، ويبصره بقوانين السقوط والنهوض، ويدعوه للاعتبار والإفادة من هذه التجارب، التي تحكمها سنن وقوانين مطردة لا تتبدل ولا تتحول، ويطلب إليه تسخيرها ومغالبتها.
فالقرآن بذلك دليل الإنسان إلى أسباب السقوط والنهوض الحضاري، قدم لإنسان الرسالة الخاتمة خريطة الحياة كاملة، وتاريخ الحياة كاملا، ورؤية المستقبل، وفرض عليه النظر والتفكير والاعتبار. [ ص: 21 ]
قدم القيم الهادية، وقدم التجربة العملية لتنـزيل هذه القيم من خلال السيرة ومسيرة خير القرون، وأغنى الرؤية السننية لحركة الحياة بتجارب الأنبياء جميعا، وفتح نظر المسلم على فضاء الحياة بأزمنتها الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل.
لكن الإشكالية أن الإنسان اليوم أضاع بوصلة الحياة في القرآن، وحوله إلى ساحة للتبرك، وتحول هو إلى نوع من العطالة عن التزام المنهج السنني وتعاطي الأسباب، وأقدار الله في تسيير الحياة، باسم الدين، فكيف يأمل من هذا الإنسان النهوض والإصلاح والصلاح؟
إن هاجس الإصلاح كان ولا يزال هم الإنسان ومؤرقه الدائب، ولقد سلك الإنسان تاريخيا صوب الإصلاح طرائق قددا، ولعل مشاريع الإصلاح أكثر من أن تحصى وإن باءت جميعها بالفشل في استنقاذ الإنسان، واسترداد إنسانيته، وتحقيق كرامته، وتوفير اختياره؛ فمن المذاهب القومية إلى المبادئ الماركسية والاشتراكية ، إلى التوهم أن أس البلاء في الرأسمالية وامتلاك وسائل الإنتاج، إلى الثورة وإيقاد الصراع الطبقي، إلى مذاهب الحرية الاقتصادية والتجارة الحرة، إلى استيراد الخطط والبرامج التربوية والتنموية، هذا عدا عن المذاهب الفلسفية الكثيرة، التي انتهت عند حدود المعارف الباردة، التي عجزت أن تغير سلوك أصحابها بله الآخرين.
فرحلة الشقاء هذه، الذي كان الإنسان أولى ضحاياها، أعادت التفكير بموضوع الإنسان من جديد، وإلى اعتبار الإنسان أو إنسانية الإنسان هي [ ص: 22 ] هدف الإصلاح ووسيلته في الوقت ذاته؛ ذلك أن في تلك التجارب ما فيها من حياة الضنك جعلت الإنسان يقف حائرا قلقا معذبا خائفا شاكا يعاود البحث من جديد... إنه الإعراض عن طريق القرآن في الإصلاح،
قال تعالى: ( ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) ) (طه:124)،
إن منهج القرآن في الإصلاح توجه صوب الإنسان لتغييره وإعادة صياغته وبناء شاكلته التي يعمل عليها
( ( قل كل يعمل على شاكلته ) ) (الإسراء:84)،
فالإنسان في القرآن هو وسيلة التغيير، وهو هدف التغيير.
والإصلاح يبدأ من تغيير عالم أفكاره وبناء شاكلته، كما أسلفنا؛ والمعادلة الصادقة للتغيير والإصلاح تتمثل في قوله تعالى:
( ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ) (الرعد:11).
فالإنسان في الإسلام خليفة الله في الأرض، والقرآن دليله إلى بناء الحضارة وإقامة العمران، وفق قيم السماء.
وبعد:
فهذا الكتاب، الذي يتمحور حول منهج القرآن في الإصلاح، يمكن أن يشكل لبنة في البناء الذهني المطلوب، ويفتح نافذة بسيطة على فضاء كبير يتطلب فقها وإحاطة واختصاصا بمسائل الحياة وقضاياها، في ضوء قيم القرآن، حتى يمكن التعامل مع القرآن تعاملا يجمع بين فقه النص وفقه الواقع، ومن ثم تنـزيل قيم القرآن على واقع الناس، بحسب استطاعاتهم [ ص: 23 ] وظروفهم، فالإشكالية المطروحة تبقى في كيفية التعامل مع القرآن، وتنـزيل قيمه على واقع الناس، وتقويم سلوكهم به.
ولعل من أقدار الله سبحانه وتعالى أن يجيء إصدار هذا الكتاب في شهر رمضان، شهر القرآن، شهر المدارسة للقرآن، والمراجعة للسلوك، والتوبة الفكرية والأخلاقية، شهر الصيام والإحساس بالبشرية والعبودية والحاجة؛ وإذا كان نزول القرآن في شهر رمضان - كما هو معلوم- فإلى أي مدى يمكن اعتبار هذا الشهر يشكل مناخا مناسبا للعودة الصحيحة على غير ما ألفناه، ويؤهل للفرار إلى الله والاجتهاد في إعادة النظر في أدوات ووسائل التعامل مع القرآن، للارتقاء وتصويب الخلل؟
وحسبنا أن نقول: يكفي رمضان قدرا ومكانة أنه شهر نزول القرآن، وشهر عطاءات القرآن في حياة المسلمين وتاريخهم الطويل، شهر المنعطفات الكبرى في حياة هذه الأمة، التي كانت خير أمة أخرجت للناس بسبب القرآن، وأن معاودة إخراجها منوط بالتزام منهج الإصلاح في القرآن.
فرمضان هو المناخ المناسب لهذه المراجعة والعزيمة على الرشد، حيث تفتح أبواب الجنة، وتوصد أبواب النار، وتصفد مردة الشياطين، ويؤوب الكثير من الناس إلى الحق، ويعزمون على الرشد.
والحمد لله من قبل ومن بعد. [ ص: 24 ]