الوسيلة الخامسة
توجيه وضبط العمليات الاجتماعية
العمليات الاجتماعية يراد بها أنماط العلاقات المختلفة التي تنشأ بين الأفراد جراء اجتماعهم في بقعة معينة، ونتيجة للتواصل والاحتكاك فيما بينهم
>[1] .
والعمليات الاجتماعية هي ناتجة عن التنوع والاختلاف الذي هو طبيعة المجتمعات الإنسانية؛ والعلاقة بين المختلفين قد تعبر عن نفسها في صورة تكامل وتعاون، أو في صورة تنازع وتصارع، أو تنافس، أو تسامح.
ويقسم علماء الاجتماع العمليات الاجتماعية إلى قسمين:
1- عمليات مجمعة: وهي تلك العمليات التي تؤدي إلى تقارب الأفراد والجماعات، وزيادة ترابطهم، كالتعاون، والتسامح.
2- عمليات مفرقة: وهي التي تؤدي إلى تباعد الأفراد والجماعات وتنافرهم، كالصراع والتنافس المذموم
>[2] .
منهج القرآن في توجيه وضبط العمليات الاجتماعية
لا شك أن العمليات الاجتماعية تحتاج إلى توجيه وضبط؛ حتى تؤدي دورها في تماسك المجتمع وإثرائه، وتجنيب المجتمع الآثار السيئة لتلك العمليات السلبية، التي قد تنشأ بين أبناء المجتمع الواحد.
[ ص: 113 ]
وقد جهد علماء الاجتماع في محاولاتهم لوضع الأسس والمبادئ السليمة للعمليات الاجتماعية حتى تسير وفق مصلحة المجتمع
>[3] .
وإذا ما تأملنا في القرآن فسنجد أنه يولي عنايته الكبيرة للعمليات الاجتماعية، ويضع لها من التوجيهات والضوابط ما يكفل ترسيخ وتعزيز العمليات الإيجابية المجمعة، ومحاصرة وإضعاف تلك العمليات السلبية المفرقة، وهذه بعض الأمثلة على ذلك:
1- التعاون
«ويقصد به المشاركة في عمل ما، أو مسئولية ما، لتحقيق هدف مشترك»
>[4] .
وهو من أهم العمليات الأساسية المؤثرة في الحياة الاجتماعية، والقرآن يأمر بالتعاون على فعل الخيرات والمبرات، وينهى عن التعاون على فعل الشرور والمنكرات،
قال تعالى:
( ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) ) (المائدة:2).
وهذه الآية تقرر مبدأ من أهم مبادئ الحياة الاجتماعية، وأنفعها للإنسانية؛ ذلك أن الحياة الاجتماعية لا تقوم إلا على التعاون، وتلك هي فائدة الاجتماع الإنساني: أن يتعاون الناس فيما بينهم على جلب المصالح والمنافع، ودفع المضار والمفاسد، ولا يمكن أن ينهض مجتمع، وأن تبنى
[ ص: 114 ] حضارة إلا بالتعاون والتعاضد والتآزر، والقرآن يؤكد هذا المعنى ويأمر به، ويحث عليه.. وفي الوقت ذاته ينهى عن استغلال التعاون في مآرب آثمة؛ لأنه حينئذ يتحول إلى قوة هدامة، تخرب ولا تبني، وتفسد ولا تصلح، ولذلك ختم الله الآية بقوله:
( ( واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) ) (المائدة:2).
فهذا وعيد منه سبحانه لأولئك الذين ينحرفون بالتعاون عن أداء مهمته في ترقية وتنمية الحياة الإنسانية، إلى تخريب الحياة وإفسادها بالإثم والعدوان.
2- التنافس
ويقصد به سعي عدة أطراف من أجل الوصول إلى هدف معين، بحيث يبذل كل طرف غاية جهده
>[5] .
والتنافس قد يكون بناء يعود بالخير على المجتمع، كتنافس الطلاب في تحصيل العلم، وتنافس العلماء لاكتشاف دواء لمرض عضال، ونحو ذلك من أنواع التنافس المشروع، وقد يتحول التنافس إلى صراع بين المتنافسين بحيث يحاول كل طرف أن يقضي على منافسه بأي وسيلة، فيكون التنافس في هذه الحال تنافسا هداما، يغذي الحقد، ويذكي الصراع في المجتمع
>[6] .
والعلامة ابن خلدون ، رحمه الله، يقسم التنافس إلى قسمين:
- تنافس في الفضائل والكمالات: وهو إذا وجد في أمة من الأمم نتج عنه العز والسلطان والسيادة.
- تنافس في الرذائل والمذمومات: ونتيجته أن ينزع الله من الأمة سلطانها، ويستبدل بها غيرها
>[7] .
[ ص: 115 ]
والقرآن يدعو إلى التنافس النافع المثمر، الذي لا ضرر فيه ولا ضرار، وهو التنافس في اكتساب الفضائل والكمالات،
قال تعالى:
( ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) ) (المطففين: 26)،
وقال سبحانه:
( ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ) (الحديد: 21).
3- الصراع
والصراع هو إحدى العمليات الاجتماعية الناتجة عن الشعور بالغضب والكراهية، وفي هذه العملية يتجه نشاط الفرد والجماعة، إلى مهاجمة الخصم والإضرار به، وربما القضاء عليه
>[8] .
والصراع عملية خطيرة تهدد الكيان الاجتماعي لا سيما إذا اتسع نطاقها، فأصبحت بين جماعتين أو أكثر، وقد حذر القرآن من التصارع والتنازع، وبين عاقبته ونتيجته في حياة المجتمع،
فقال تعالى:
( ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ) ) (الأنفال: 46).
ولما كان الصراع ظاهرة اجتماعية لا يخلو منها مجتمع إنساني، فقد سعى القرآن إلى تطويقها والحد منها، وتقديم الحلول والمعالجات لها حين وقوعها، ومن هذا المنطلق أمر القرآن المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى
[ ص: 116 ] الله والرسول، أي: إلى الكتاب والسنة:
( ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) ) (النساء:59).
وإذا ما تطور النـزاع ووصل إلى الصراع المسلح، فالقرآن يأمر باحتواء الموقف، والإصلاح بين المتنازعين:
( ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ) ) (الحجرات:9-10).
4- التسامح
ولأن الحياة الاجتماعية لا تخلو من تنازع وتجاذب وتصارع وتنافس، فالناس محتاجون إلى التسامح فيما بينهـم، وإلى طي صفحـة الماضي بكل ما فيها من أخطاء وتجاوزات، حتى يعيشوا بسلام وأمن، وفي جو اجتماعي يسوده الاستقرار، وتغشاه الطمأنينة.
والقرآن في كثير من آياته يدعو إلى التسامح مع الآخرين، وإلى الصفح عنهم، كما في قوله تعالى:
( ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) ) (فصلت: 34)؛
وقوله تعالى:
( ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ) ) (البقرة: 109)؛
وقوله:
( ( وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ) ) (الحجر:85).
[ ص: 117 ]
ومن صفات أهل الإيمان، التي يقررها القرآن: صفة كظم الغيظ والعفو عن الناس،
قال تعالى:
( ( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) ) (آل عمران:134).
والقرآن يجعل التسامح مع الناس والعفو عن أخطائهم سببا لنيل العفو والمغفرة من الله،
قال تعالى:
( ( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) ) (النور: 22)،
فالذي يعفو ويصفح عن الناس يكون أهلا لأن يغفر الله له؛ فالجزاء هنا من جنس العمل، وفي تقرير هذا المعنى يقول الإمام ابن القيم
>[9] ، رحمه الله: «وهو سبحانه وتعالى رحيم يحب الرحماء، وإنما يرحم من عباده الرحماء... وقابل المعاذير، يحب من يقبل معاذير عباده، فمن عفا عفا عنه، ومن غفر غفر له، ومن سامح سامحه، ومن حاقق حاققه، ومن رفق بعباده رفق به، ومن رحم خلقه رحمه، ومن صفح عنهم صفح عنه... وكل من عامل خلقه بصفة عامله الله بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده على حسب ما يكون العبد لخلقه»
>[10] .
[ ص: 118 ]