الفصل الثاني: رحلة محمد علي باشا واستغلاله للتناقضات الغربية في مجالات التحديث
وفي ظل ضعف الدولة العثمانية، استطاع محمد علي (1805-1840م) السيطـرة على حكم مصر... والسعي نحو بناء إمبراطورية قوية تكون مصـر مركزها، وكان محمد علي يدرك أن تحقيق أهدافـه لا يتم إلا بحكم مركزي يستند على جيش حديث قوي، ومن هنا سعى إلى تحديث وجه الحياة في مصر في كافة المجالات... فأسس الصناعات، والزراعات الحديثة التي تخدم بناء الجيش، واستعان بالأجانب في ذلك، كما أرسل البعثات العلمية إلى الخارج.
>[1]
تبدأ رحلة محمد علي باشا بثورة شعبية قادها العلماء والمشايخ بقيادة العالم المجاهد عمر مكرم (1755م/1822م)، مادتها الجماهير وأوساط من الجند والعساكر، وذلك بعد أن تجمعت عوامل كثيرة من أجل اندلاعها: هزائم أمام نابليون، ومفاسد الحكام وانقساماتهم، وغلاء وجوع، وحالة اقتصادية متدهورة. وتنتهي الثورة بوصول الضابط الشاب محمد علي إلى رأس السلطة ليصبح، بناء على مناداة العلماء به، واليا على مصر، وقد أخذوا عليه المواثيق والعهود ليقيم العدل في الرعية، ويجعل الحكم شورى وينهض بالبلاد، ويعزز قوتها العسكرية ليحمي استقلالها ويرد عنها وعن الدولة العثمانية مكائد
[ ص: 135 ] الأعداء. ويقبل محمد علي بالشروط التي كانت في مقام الدستور. ولكن سرعان ما ينقلب عليها ليتحول إلى مستبد مطلق الصلاحيات يملك الأرض وما عليها ومن عليها.. على أن ثمن هذا الاستبداد الفردي سيدفعه لاحقا حين تقع المواجهة بينه وبين الدول الغربية
>[2] ، عندما شعرت بخطره يتهدد مصالحها بسبب طموحه الزائد والمتهور، خاصة عندما لم يعد بمقدوره تعبئة طاقات العلماء والأمة في هذا الصراع، بعدما لم يتورع عن اضطهاد العلماء والتنكيل بهم وكبت صوتهم وتحقير مكانتهم، ولم تأخذه رحمة وهو يجمع الضرائب ويقسو على الفلاحين ليؤمن الأموال لجيشه ومشاريعه، أو وهو يفرض التجنيد الإجباري، ولعله في هذا لم يختلف عن كثير من بناة الإمبراطوريات في الغرب. ولكن مشكلته أنه فعل ذلك في ظل ميزان قوى مختل لمصلحة الغرب، حيث ظلت كل إنجازاته ضمن سقف متحكم فيه من قبل الدول الكبرى آنذاك... لقد تعدى محمد علي الخطوط الحمراء فيما بلغه - في احتكاكه مع الغرب وتعاونه معه وانفتاحه عليه- من قدرة عسكرية وتطور اقتصادي وصناعي وزراعي وإداري، لذلك اتحدت الدول العظمى لحصر نفوذه ونزع سلاحه وتحطيم إنجازاته، وما أشبه اليوم بالبارحة، فالصورة نفسها تتكرر اليوم في أكثر من موقع في بلاد المسلمين
>[3] .
[ ص: 136 ]
لقد أثبتت تجربة محمد علي وبعد أن وصلت أوجها من حيث القوة العسـكرية والتوسـع أنهـا غير قـادرة على الصمود، وما كان لها ذلك إلا بشروط أخرى لعل أهمها التحامها بالشعب وعلى رأسه العلماء والركون إلى مرجعية الإسلام، ليس شعارا -كما هو الحال الآن - ولكن حكما وشورى وعملا، فهذه هي المعادلة التي يمكنها أن تحل إشكالية ميزان القوى
>[4] ، وتحمي ظهر القائد وهو ينافح عن ثوابت الأمة وعزتها وكرامتها، فلا عزة لأمة دون قائد مؤمن بقضاياها ومشاكلها ومرجعيتها، ولا نجاح لقائد في مهمته دون أمة تثق فيه وتضحي من أجله.
إلا أننا في مطالعتنـا لهذه التجربة لا يمكن أن ننكر حنكة وفطنة وذكاء محمـد علي حينما أفاد في المراحـل الأولى من حكمه فناور مع هـذه الدول الكـبرى: تحالفا وتعاونا وتواطـؤا، فأتى بالخبراء ليطور جيشه وسلاحه وصناعته وزراعته وإدارة دولته، كما أتاح له ذلك أن يخصص ما شاء من الأموال لخدمة المشاريع الطموحة في إصلاح الأرض وإقامة الصناعات وبناء الجيـش. وقد حقق عـددا كبـيرا من الإنجازات لا ينكرها إلا جاحد غير منصف على المستوى الداخلي كإصلاح الجيش وبنائه، وإصلاح الدولة وإعادة تنظيمها، وإصلاح الاقتصاد والنهوض به، كما حقـق عـددا من الانتصارات العسكرية، فضم إليه أغلب شبه
[ ص: 137 ] الجزيرة العربية، وأصبح يشكل خطرا على الغرب خاصة بعد انتصاراته في كريت واليونان
>[5] .
ونحن لا نقصد من استعادة هذه التجربة أن نكتب سيرته، وإنما نقصد وضع التجربة تحت الدراسة لاستيقاء العبر منها ما أمكن، وخاصة حول العلاقة بالدول الكبرى حيث أفاد إفادة ملموسة من التناقضات بين فرنسا وبريطانيا وروسيا والنمسا، فعزز قدراته بما كانت تغدقه عليه كل دولة ليكون صدى لها. وقد أغرت هذه التناقضات محمد علي أن يدخلها بقوة واقتدار، فأصبحت الدبلوماسيـة ركنا أساسيا في استراتيجيته لتحقيق أهدافه، وقد حرص أن يجمل صورته في أعين الغرب باعتباره مصلحا مستنيرا ومنفتحا ومتسامحا مع الأجانب ويقتفي آثارهم في التحديث، بل ويفكر كما قال عن نفسه «بعقل إفرنجي وهو يلبس القبعة العثمانية»، وكان في أثناء هذه العملية قد أبعد القيادات الإسلامية الثورية، وفي مقدمتهم السيد عمر مكرم، وضيق عليها
>[6] .
[ ص: 138 ]