الباب الثاني
الصعود السريع والسقوط المدوي في تجربة محمد علي باشا (1769/1849م)
الفصل الأول: بين حضارة إسلامية آفلة وحضارة غربية ناهضة
عاش العالم العربي تحت حكم الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر، وحتى الربع الأول من القرن العشرين - حين سقطت الخلافة العثمانية في مارس 1924م -، وقد تمتعت هذه الدولة بقوة عسكرية كبرى استطاعت بها أن تسيطر على أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، وأن تخضع لسيطرتها أجزاء من أوروبا، ولكن هذه الدولة القوية على المستوى العسكري عاشت عالة في حياتها الثقافية والفكرية على المنتج الفكري والثقافي للحضارة الإسلامية في عصورها المزدهرة، ولهذا عرفت مرحلة الدولة العثمانية في التاريخ الثقافي العربي بأنها مرحلة "الشروح والتلخيصات"، وكان التعليم السائد في مؤسسات هذه الدولة - كالأزهر، وجامع الزيتونة - يعتمد على شرح الأعمال الكبيرة في فترات ازدهار حضارة الإسلام العلمية، وإن المرء ليشعر بالحيرة إزاء وضع هذه الدولة القوي على مستوى الحكم المركزي، [ ص: 131 ] والمتدهور على المستوى الفكري والثقافي، وكنت أتساءل ما سبب هذه المفارقة؟ هل ترجع حالة التدهور الفكري هذه إلى الطابع الاستبدادي لهذه الدولة؟! أم هل يرجع إلى عدم وجود خطاب فكري آخر متقدم وضاغط على الحياة الثقافية في هذه الدولة؟! في وقت كانت الحركة الفكرية في أوروبا في مرحلة التشكل، وتسعى إلى إصلاح أوضاع أوروبا من الداخل، ولم تكن أوروبا قد دخلت في مواجهة مع العالم العربي والإسلامي بعد.
ولكن منذ أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عانت الدولة العثمانية من مرحلة تخلف واضحة، وأسماها المؤرخون - فيما بعد- بـ(الرجل المريض)، وكان هذا الضعف يوازيه ازدهار وتقدم في أوروبا، التي بدأت تطمع في أملاك هذا الرجل المريض لكي تمد الحركة الصناعية عندها بالخامات، فكانت الحملة الفرنسية على مصر (1798م- 1801م) هي إحدى أهم البدايات المؤسسة لمعرفة الآخر، وقد كانت المواجهة بين البندقية والسيف هي بالأساس مواجهة بين حضارة ناهضة واعدة، وحضارة آفلة، ومنذ تلك اللحظة بدأ المجتمع العربي الإسلامي يعي أن هناك آخر ناهضا، وحضارة غربية قوية، وهنالك بدأ البعض يعي طبيعة الانحطاط والتدهور الذي يعيش فيه العالم العربي، وكان بعضهم الآخر يتساءل عن أسباب تأخر المسلمين، وأسباب نهضة غيرهم. [1] [ ص: 132 ]
في سنة 1798م بدأ نابليون بونابرت حملته على مصر، وتحت إمرته جيوش جرارة ومعدات عسكرية متطورة، وحمل معه أدوات وآلات الزمن الحديث، والسفن التي حملت كل ذلك حملت معها أيضا أساتذة وعلماء ومفكرين، وشوارع القاهرة القديمة التي تعرفت على (الأقدام السوداء) تعرفت في الوقت نفسـه على طريقة تفـكير وأسلوب عيش جديدين، طرحا أمام الناس جملة تسـاؤلات كانت ومـازالت تتردد على الشفاه، كما تتردد على صفحات المحاولات العديدة التي حاولت التطرق لدراسة موضوع (النهضة)...
ويجدر بنا أن نذكر بأن الاحتكاك بالغرب كان قد بدأ قبل حملة نابليون، كما أسلفنا في حديثنا سابقا، حيث بدأ البعض- وهم قليل- يشعر بخطر أوربا القادم، وكانت هناك مبادرات - خجولة ومغمورة - للتفتيش والبحث عن السبل لتفادي السقوط مرة أخرى أمام الغرب. وإذا كانت بعض المحاولات مطبوعة بطابع التماهي مع الغرب وخاصة على المستوى العسكري البحت، فإن المحاولات الأخرى التي بدأ صوتها يعلو مع الأيام والتي أرخت لعصر النهضة كانت أكثر غنى وعطاء على المستوى الفكري والسياسي، حيث طرح هذا العصر عدة محاولات أجوبة على التحديات الداخلية والخارجية، التي كانت تغل حركة المجتمـع الإسـلامي. والعودة -اليوم- إلى عصر النهضة محاولة لفهم كيف يمكن صياغة موقف من [ ص: 133 ] الغرب [2] أولا، ثـم لمحاولة تحديد معالـم البنية المرجعية في بعدها الثقافي والفكري والدينـي، التي أسست لإرهاصات أولى لقراءة الغرب قراءة علمية ومعرفية.
الحديث عن عصر النهضة لا يستقـيم إلا بالعروج على تجربة محمد علي باشا، التي انقسم حولها وحـول صاحبها المفكرون والمحللون والمؤرخون، فهي عند البعض منارة عصر الاستنارة والتجديد والتحديث في تاريخ الإسلام الحديث، وعند بعضهم الآخر مستنقع سقط فيه المسلمون وجر ويلات فكرية وثقـافية وسياسية ما نزال نتجرع نتائجها إلى اليوم. لكن قبل الحكم على الرجل وعلى تجربته نطرح السؤال: ما هي قصة محمد علي باشا ابتداء؟ [ ص: 134 ]