المبحث الثاني: موقف الرفض
ويركز على سلبياته أكثر من إيجابياته، ويمثل هذا الاتجاه كل من: الإمام محمد عبده ( 1849-1905م) ، ورشيد رضا (1865 –1935م) ، ومن الباحثين المعاصرين: محمد عمارة، ونصر عارف.
- محمد عبده: أول انتقادات محمد عبده هي استبداد محمد علي في التعامل مع المخالفين له في الرأي والفكر، حيث كان يستعين بالجيش للتخلص من خصومه، وبمن يستميله من الأحزاب لسحق حزب آخر ثم يستدير على من كان معه فيتخلص منه.
وثاني هذه الانتقادات هو أسلوب محمد علي في التعامل مع الأجانب، فقد أعلى كعبهم وأغدق عليهم الوظائف ووهب لهم المكانة الاجتماعية حتى ضعفت نفوس الأهالي وتمتع الأجنبي بحقوق المواطن التي حرم منها، وهكذا اجتمع على المصري ذل الحكومة الاستبدادية المطلقة من ناحية وذل إذلال الأجانب لهم من ناحية أخرى.
وثالث هذه الانتقادات هو أن إصلاحات محمد علي كانت في مجملها موجهة ناحية الجيش والأغراض العسكرية ولم تكن موجهة ناحية الأمة المصرية، فقد اعتنى بالطب والهندسة لأجل الجيش، حتى البعثات العلمية كانت من أجل خدمة أغراضه وبذلك قتل الحرية الفكرية لدى الشعب.
ورابع هذه الانتقادات هو أن محمد علي لم يفكر مطلقا في إصلاح اللغة سـواء أكانت العربية أم التركية، ولم يجعل للأهالي رأيا في حكوماتـهم
[ ص: 144 ] ولم يضع حكومة قانونية منظمة يقام بها الشرع ويستقر بواسطتها العدل، ولم يفكر كذلك في بناء التربية على قاعدة من الدين أو الأدب، حتى الكتب التي ترجمت في شتى فروع المعرفـة من تاريـخ وفلسفـة وأدب لم ينتفع بها الشعب المصري لأن محمد علي لم يعمل على تكوين أرضية عريضة من أبناء الشعب المصري تستفيد من هذه الكتب.
والانتقاد الخامس هو إهمال محمد علي للناحية الدينية في نهضته، فيرى أن محمد علي لم يهتم يوما بالدين إلا من ناحية استمالة بعض رجاله المنافقين لدعم سلطانه أو للقضاء على خصومه، ذلك العمل الذي بدأ في ظاهره خدمة للدين، في حين أنه عمل سياسي محض لا شأن له بالدين أو بغلو بعض أصحابه في بعض معتقداتهم
>[1] .
وخلاصة القول: يرى محمد عبده أن محمد علي كان تاجرا وزارعا وصانعا وجنديا باسلا ومستبدا ماهرا، ولكنه كان لمصر قاهرا ولحياتها الحقيقية معدما، فقد أنشأ محمد علي نهضة عمرانية ولكنها كانت لأجل خدمة غرض واحد هو الغرض العسكري، ولم يشعر الإنسان المصري بها، بالإضافة إلى أنه أهمل الجانب الديني الأخلاقي في نهضته، فكانت نهضة منقوصة لم تؤت ثمارها المرجوة، وكل هذا كان وما يزال أمرا واقعيا ملموسا لا يحتاج إلى تأويلات مختلفة وخاصة ما أثاره الإمام محمد عبده من إعلاء سلطة الأجانب في مصر على حساب كرامة المواطن المصري، حتى
[ ص: 145 ] وصل الأمر إلى إنشاء المحاكم المختلطة التي كانت بداية الاحتلال الأجنبي لمصر، وهذا ما يدلل على رفض البعثة اليابانية، التي زارت مصر آنذاك لدراسة نظام المحاكم المختلطة، تطبيق ذلك النظام في اليابان
>[2] والمقارنة تظهر أيهما كان على صواب.
- رشيد رضا: لم يختلف كثيرا عن رأي أستاذه إلا في تفصيلاته، فيشير إلى أن محمد على يعد ضمن المصلحين من الناحية الدنيوية (المادية والسياسية) دون الناحية الدينية والمعنوية، فقد بنى ركني الثروة والقوة على أساس العلم ولكنه أهمل بناء الأخلاق والآداب على أساس الدين وسنن الاجتماع؛ لذلك كان إصلاحه منقوصا، عالج ناحية وأهمل الأخرى، ويرى أن هذا الإصلاح يعد إصلاحا صوريا لم يزد الأمة إلا ضربا من الفساد وإضعاف روح الاستقلال، فلم يكن محمد علي هو الطبيب الاجتماعي المبصر بأمراض الأمة الباطنة والظاهرة حتى يتمكن من وصف العلاج الملائم لها، لذلك كان من أثر عدم تمكن الطبيب أن زادت الأمة مرضا وضعفا، حتى إن العلوم التي أدخلت إليها قسرا كانت مثل الجسم الغريب الذي يدخل في البنية فيفسدها؛ لأن هذه العلوم لم تكن على حسب استعداد الأمة وحاجاتها، بل كانت تقليدا صوريا أو عارضا وقتيا، تمثل ضررها في تلك التقاليد والقوانين الغربية، التي قطعت كثيرا من روابط الأمة الملية ومشخصاتها الأدبية والاجتماعية ولم تستبدل ما يحل محلها من مقومات
[ ص: 146 ] الأمم الأوربية، بل صارت عيالا عليهم في جميع الشؤون، حتى انتهى الأمر إلى فقدان الاستقلال باسم النفوذ أو الحماية أو الاحتلال
>[3] .
ويرى رشيد رضا أن لمحمد علي ثلاثة أعمال كبيرة، كان كل منها موضع خلاف:
أولها: هو تأسيس حكومة مدنية بمصر كانت مقدمة لاحتلال الأجانب لها، واعتبرها من الحكومات الظالمة، وكل ما فعلته حكومة محمد علي هو أنها نظمت الظلم ووحدته.
وثانيها: هو الخروج على الدولة العثمانية، الذي أضر بالإسلام والمسلمين.
وثالثها: فهو محاربة الوهابية.
- محمد عمارة: ومن الباحثين المعاصرين الذين نقدوا محمد علي، محمد عمارة، حيث يركز على تبني محمد علي لفكر الدولة المستبدة التي تسيطر على أغلب نواحي النشاط الاجتماعي، فأحيلت الأمة إلى التقاعد وأصيبت ملكاتها وطاقاتها بالسلبية والذبول واللامبالاة، وبذلك تعاظم دور الدولة على حساب الأمة (الشعب) ، وهذا يبرر الإخفاقات، التي أصابت مشروع محمد علي، إذ أصبح موقف الدولة ضعيفا أمام التغريب والاستلاب الحضاري والاستعمار
>[4] .
[ ص: 147 ]