المبحث الثاني: ردود علمية، بين الإقرار والرفض
لقد وقع لغط كبير حول الكتاب، تراوحت دوافعه بين المواقف السياسية والطروحات العلمية.
فقد قام الشيخ «علي عبد الرازق» بإهداء نسخة من كتابه «الإسلام وأصول الحكم» إلى صديقه محمد حسين هيكل رئيس تحرير جريدة «السياسة» لسان حال حزب الأحرار الدستوريين، وكانت أسرة «عبد الرازق» من قادة الحزب ورجاله المبرزين، فأعلنت الجريدة في 24 مايو 1925م عن صدور الكتاب وجهود الشيخ علي عبد الرازق المبذولة فيه
>[1] .
وعندما اعتزمت (هيئة كبار العلماء) بالأزهر محاكمة الشيـخ علي عبد الرازق على كتابه هذا، كتب محمد حسين هيكل مقالا شديد السخرية من هذه المحاكمة يدافع فيه عن الكتاب ومؤلفه ومما جاء فيه: ... وماذا تقول في عالم من علماء الإسلام يريد ألا يكون للمسلمين خليفة، في وقت يطمع فيه كل ملك من ملوك المسلمين وكل أمير من أمرائهم في أن يكون خليفة؟... ثم ماذا تقول في عالم مسلم مصري يقول بوجوب ارتباط مصر وإنجلترا برباط الصداقة ويذهب في ذلك مذهب المتطرفين، ثم يقف في وجه
[ ص: 177 ] إقامة خليفة، بينما تريد إنجلترا أن يكون خليفة، وأن يكون هذا الخليفة واحدا من الملوك أو الأمراء الواقعين تحت نفوذها؟ أو لم يكن من الأولى به والأجدر به أن يترك الخلق للخالق حتى يقام الخليفة... فيرضى أمير وإن غضب أمراء؟ وترضى إنجلترا وقد يكون في رضاها ما يقرب المسائل المعلقة بيننا وبينها؟ .... ما أظن أن واحدا من أصدقاء الشيخ علي عبد الرازق، بل ما أظن الشيخ نفسه إلا يرى، أمام هذه الاعتبارات، أن الشيخ أخطأ خطأ بينا يستحق عليه المحاكمة
>[2] .
وقد اطلع الشيخ محمد رشيد رضا على الكتاب، وكتب مقالة عنه في الصفحة الأولى بجريدة (اللواء المصري والأخبار) يوم 8 يونيو 1925 ألمح فيها إلى خطورة الدعوة التي يتناولها الكتاب وإلى خطورة أن يأتي بهذه البدعة قاض شرعي وعالم أزهري، واستنفر مشيخة الأزهر للتصدي للكتاب ولمؤلفه؛ لأنه واحد منهم، فقال:
«أول ما يقال في وصف هذا الكتاب لا في الرد عليه إنه هدم لحكم الإسلام وشرعه من أساسه، وتفريق لجماعته، وإباحة مطلقة لعصيان الله ورسوله في جميع الأحكام الشرعية الدنيوية من أحكام شخصية وسياسية ومدنية وجنائية وتجهيل للمسلمين كافة، وإننا سنرد على جميع أبوابه وفصوله ردا مفصلا، ولكننا لا نقول في شخص صاحبه شيئا فحسابه على
[ ص: 178 ] الله تعالى، وإنما نقول إنه لا يجوز لمشيخة الأزهر أن تسكت عنه فإن هذا المؤلف الجديد رجل منهم فيجب عليهم أن يعلنوا حكم الإسلام في كتابه لئلا يقول هو وأنصاره إن سكوتهم عنه إجازة له أو عجز عن الرد عليه»
>[3] .
وكان من أجود ما كتب ضد الكتاب من الناحية العلمية، الدراسة الفكرية التي كتبها المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين في كتاب بعنوان: «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم». فقد أمسكت هذه الدراسة «بتلابيب علي عبد الرازق في عدد من المواقف الفكرية، وفندت عددا غير قليل من آرائه، وقدمت إلى الناس صورة أكثر إنصافا لكثير من الصفحات التي شابتها الشوائب في كتاب «الإسلام وأصول الحكم»... وحتى هذه الدراسة ساقها صاحبها في (الموكب الملكي) ، مما جعل منها مع الأسف الشديد جهدا مكرسا - في نظر الرأي العام - لخدمة أطماع الملك فؤاد في منصب الخلافة على المسلمين»
>[4] .
وكانت من أبرز الردود العلمية على مستوى المغرب العربي ما كتبه الشيخ الطاهر بن عاشور، ولعمقه أحببت الوقوف معه وقفة أطول من غيره في النقط التالية:
[ ص: 179 ] 1- ذكر عبد الرازق في صحيفة 8 أنهم لم يبينوا مصدر القوة التي للخليفة، وأنه استقرأ من عبارات القوم أن للمسلمين في ذلك مذهبين: منهم من يرى أن الخليفة يستمد قوته من قوة الله تعالى؛ ومنهم من يرى أن مصدر قوته هي الأمة. وهذا الكلام الذي أطال به هنا بعيد عن التحقيق، اشتبه عليه فيه الحقيقة بالمجاز، والحقائق العلمية بالمعاني الشعرية والمبالغات في المدح والغلو فيه، فجعل مستنده في إثبات المذهب الأول نحـو قولهم للخـليفة: ظل الله في الأرض، ونحوه من الأبيات التي ذكرها وديباجات التآليف التي سردها. هذا، ولم يقل أحد من علماء الإسلام: إن الخليفة يستمد قوته من الله تعالى، وإنما أطبقـت كلمتهـم على أن الخـلافة لا تنعقد إلا بأمرين: إما البيعة من أهل الحل والعقد من الأمة، وإما بالعهد ممن بايعته الأمة لمن يراه صالحا. ولا يخفى أن كلا الطريقتين راجع للأمة لأن وكيل الوكيل وكيل، فإذا بويع فقد وجب له ما جعله الله من الحقوق التي هي القوة المبينة في شرع الله تعالى، لأن الله حدد قوة الخليفة وجعلها لخدمة مصلحة الأمة، وجعل اختيار ولي أمرها بيد الأمة، ولم يقل أحد إنه يستمد من الله تعالى بوحي ولا باتصال روحاني ولا بعصمة. ولا خلاف أن حكم الخليفة حكم الوكيل إلا في امتناع العزل بدون سبب من الأسباب المبينة في مواضعها من كتب الفقه وأصول الدين.
ثم نظر في صحيفة 11 بين اختلاف المسلمين الموهوم وبين اختلاف الأورباويين. وهو تنظير ليس بمستقيم
>[5] .
[ ص: 180 ] 2- تشكيك علي عبد الرازق في أن الكتاب والسنة لا دليل فيهما على وجوب نصب الخليفة...فإن كان ينحو بذلك إلى مذهب الخوارج من إنكار وجوب نصب الأمراء فليذكر أن الأدلة الشرعية غير منحصرة في الكتاب والسنة، فإن الإجماع والتواتر وتظاهر الظواهر الشرعية هي دلائل قاطعة تربو على دلالة الكتاب والسنة إذا كانت ظنية، وقد تواتر بعث صلى الله عليه وسلم الأمراء والقضاة للبلدان النائية، وأمر بالسمع والطاعة، بل وأمر القرآن بذلك أيضا، فحصل مجموع ذلك ما أوجب إجماع الأمة من عهد الصحابة صلى الله عليه وسلم على إقامة الخليفة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
>[6] .
3- فلما تطلبوا الأدلة القطعية وجدوها في الإجماع، والمراد من الإجماع أعلى مراتبه، وهو إجماع الأمة من العصر الأول استنادا للأدلة القاطعة والقائمة مقام التواتر، وهو في الحقيقة مظهر من مظاهر التواتر المعنوي. وأي دليل على اعتبارهم الخلافة من قواعد الدين أعظم من اتفاق الصحابة عليه وهرعهم يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك من غير مخالف... وهذا النوع من الإجماع هو الذي ثبت به قواطع الشريعة المعبر عنها بالمعلومات ضرورة
>[7] .
4- فقول المؤلف: «ولو وجدوا لهم في الحديث دليلا لقدموه في الاستدلال على الإجماع» كلام يتعجب من صدوره عن ممارس لعلوم الشريعة، حتى يعتقد أن دلالة أخبار الآحاد أقوى من دلالة الإجماع، على أنهم
[ ص: 181 ] كيف يتحاجون للاستدلال مع عدم الاختلاف، ولم يعرف خلاف أحد من المسلمين في وجوب نصب الإمام إلا ما رمز إليه الحرورية
>[8] يوم التحكيم بعد وقعة صفين، إذ قالوا لما سمعوا التحكيم (لاحكم إلا لله) ، كلمة مموهة مجملة، فقال علي، رضي الله عنه، حين سمعها: (كلمة حق أريد بها باطل)
>[9] .
5-وأعجب من هذا أن المؤلف حاول أن يجيب عن الأحاديث التي استدل بها العلماء على وجوب نصب الإمام بما حاصله بعد نخله: إن ذكر القرآن لطاعة أولياء الأمور وذكر الأحاديث للخلافة أو الإمامة أو السمع والطاعة-وقال بعد أن شك في صحة ما معلوم الصحة منها-: إن معنى ذلك أنه إن وقع ذلك وقدره الله فإننا نقابله بما أمرنا به لا على معنى أنا ملزمون بإيجاد ذلك. ثم نظره لما حكته الأناجيل أن «أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، فما دل ذلك على أن حكومة قيصر من شريعة الله. قال: على أننا أمرنا بطاعة البغاة والعصاة فما كان ذلك دليلا على مشروعية البغي الخ... وهذا كلام ضغث من أغلاط وكان للناظر اللبيب غنى عن التوقيف على ما فيه، وملاك ذلك أن الأوامر النبوية دلائل على مشروعية الخلافة، إذ النبي لا يأمر بالمنكر ولا يؤيد أمرا غير معتبر شرعا، وقد احتج الفقهاء في الإسلام بدلالات الألفاظ النبوية، حتى بدلالة الإشارة، وحتى بما يضرب فيها من الأمثال. وتنظيره بما في الإنجيل خروج عن جادة القيل. وقوله: إنا أمرنا بطاعة البغاة
[ ص: 182 ] كلام باطل، بل قد أمرنا بأن لا نطيع في منكر، وإنما أمرنا بطاعة ولاة الأمور العصاة إذا كان عصيانهم متلبسا بذواتهم لا بأوامرهم، على أن في هذا خلافا قديما بين علماء الأمة فلا يمكن جعله أصلا يستنبط منه
>[10] .
6- وقال المؤلف: إن مقام الخلافة كان منذ الخليفة الأول عرضة للخارجين عليه، المنكرين له... الخ. وهو كلام يزيفه التاريخ والحديث والفقه: فإن بيعة أبي بكر لم ينكرها أحد من المسلمين ولا دعا داع لمنازعته، ولكن خرجت طوائف من العرب، منهم من خرج من جامعة الإسلام، وهذا لاحجة فيه، ومنهم من منع حق الزكاة ورأى أن ذلك من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم فقط، فما خرجوا لمنازعته في الولاية
>[11] .
7- وقال: غير أننا إذا رجعنا إلى الواقع ونفس الأمر وجدنا الخلافة في الإسلام لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة الخ... وقد اشتبه عليه هنا حياطة الخلافة بالقوة العامة لتنفيذ الشريعة على من يأباها بأخذ الخلافة بواسطة القوة. نعم نحن لا ننكر أن من الأمراء من استعمل القوة لنوال الإمارة، إلا أن ذلك لا يقدح في ماهية الخلافة؛ لأن العوارض التي تعرض للشيء في بعض الأوقات لا تقضي على الأصل بالبطلان
>[12] .
[ ص: 183 ] 8- ثم قال: إن دعوة الدين دعوة إلى الله بتحريك القلوب بوسائل الإقناع، فأما القوة والإكراه فلا يناسبان دعوة غرضها هداية القلوب، وما عرفنا في تاريخ الرسل رجلا حمل الناس على الإيمان بحد السيف. ثم تلا آية الإكراه في الدين وغيرها وقال: وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى القوة، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين، وما نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك ولتكوين الحكومة الإسلامية، فذلك هو سر الجهاد ومثله الزكاة والجزية والغنائم، فذلك خارج عن وظيفة الرسالة من حيث هي وبعيد عن عمل الرسـل وكذلك توجيه الأمراء الخ.. وها هنا قد ارتكب المؤلف ضروبا من الخطأ:
فأما زعمه أن الدعوة إلى الدين تنافي استعمال القوة والإكراه فمردود، لأن الدعوة للدين يقصد منها حمل الناس على صلاح أمرهم، فالابتداء بالدعوة ظاهر، ثم إن هـم عاندوا وجحـدوا ولم تقنعهم الدعوة والأدلة فلا جرم أن يكون استصلاحهم هو القوة كما يحمل الصبي على صلاحه بالتأديب، وكما يحمل أفراد الناس على الامتثال للشريعة بالرغبة والرهبة. وهذا لا يشك فيه عالم متشرع بل ولا عالم قانوني.
وإذا كان يدعي أن استعمال القوة ليس من توابع الرسالة وجعله تصرفا من النبي صلى الله عليه وسلم بصفة الملك والسياسة، فهل يدعي أيضا أن تعرض القرآن لذلك في نحو آية
( فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) (الحجرات: 9)
هو أيضا تصرف بالسياسة ولا يسعه إلا التزام ذلك، فإذا يصير القرآن مع كونه كتاب دين هو أيضا دستور سياسة، وكفى بهذا خبطا، فإن أصاب فأجاب
[ ص: 184 ] بأن الشريعة والسياسة أخوان وأنه لا يتم شرع بدون امتزاجه بالحكومة فقد تاب إلى الحق وعلم أن لابد من الأمرين لصلاح الخلق
>[13] .
9- وذكر ما خلاصته: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له مـلك و لا حكومة ولا قام بتأسيس مملكة. نعم، إن الرسالة تستلزم للرسول نوع زعامة في قومه، وما هي كزعامة الملوك على رعيتهـم، فإن زعامة موسى وعيـسى لم تكن زعامة ملوكية، كما أن الرسالة تستلزم لصاحبها نوعا من القوة ليطاع وتستلزم له سلطانا أوسع مما يكون بين الحاكم والمحكومين وبين الأب وأبنائه. وقد يسوس الرسول الأمة سياسة الملوك وله وظيفة زائدة وهي الاتصال بأرواح الأمة لا سيما ورسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بدعوة عامة؛ فهي توجب له من تأييد الله ما يناسب تلك الدعوة. فلذلك كان سلطانه سلطانا عاما له أقصى ما يمكن من درجات نفوذ القول وهو سلطان ترسله السماء، وهي ولاية روحية لا ولاية تدبير مصالح الحياة وعمارة الأرض إلخ
>[14] .
10- ثم نحن نسائله: هل كانت الأمة في زمن النبوة ذات نظام وحكومة أم كانت فوضى؟ فإن اختار الأول، فإما أن تكون حكومة الأمة يومئذ بيد النبي أو بيد غيره. فإن كانت بيد النبي فقد ثبتت الحكومة المقارنة للرسالة وبطل ما أسسه المؤلف وأعلاه ورجعنا إلى اعتبار المسميات دون الأسماء وهو الصواب والرشد، وإن فرضت بيد غير النبي فالتاريخ ينافي إثباتها
[ ص: 185 ] والعقل يقتضي أن وجود الرسالة معها يصير عبثا. وإن اختار أن الأمة يومئذ باقية على الفوضى فما تنفع الرسالة هذه قيمة لكلامه في هاته الصحائف. فإن قال: إنها زعامة وقتية لا تثبت لأحد بعد الرسول فقد رجع لقول بعض عرب الردة وبعض الخوارج... وأما تنظيره بزعامة موسى وعيسى ( فبعضه صحيح وبعضه باطل: فإن موسى أسس جامعة وحكومة وفتح البلد المقدس، وأما عيسى ( فجاء داعيا فقط، ونحن لا نقول بأن كل رسول له حكومة، بل نقول إن بعض الرسل أرسل بالدين وعضد بالحكومة. وهذا كما شرحناه أولا هو أكمل مظاهر الرسالة
>[15] .
وقد دارت معركة ضارية على صفحات الجرائد بين المعارضين للكتاب والمرحبين به، انتهت بتقديم كثير من العلماء وطلاب الأزهر عرائض لمجلس الوزراء ولشيخ الأزهر مطالبة بمصادرة الكتاب وتقديم الشيخ «علي» للمحاكمة في مجلس تأديب، وقامت الوفود بزيارة شيخ الأزهر لتبدي استياءها وتذمرها من تجاهل الداخلية ووزيرها إسماعيل صدقي للطعون المقدمة بشأن الكتاب، وطلبت مصادرته، وانهالت التلغرافات من مختلف المديريات التي تحمل عشرات التوقيعات وتطالب بالقضاء على الكتاب، وذهبت بعض الوفود إلى الملك فؤاد بقصر المنتزه بالإسكندرية ليتخذ إجراء حاسما بشأن الكتاب وصاحبه وليحث الوزارة والمشيخة على سرعة الفصل بشأن الكتاب وصاحبه.
[ ص: 186 ]