الفصل السادس
التجربة التركية: اهتمام مبكر بالتجربة الغربية
وانتقال من الإسلامية إلى العلمانية
رغم أنني بدأت الحـديث عن التجربة المصرية في العلاقة مع الغرب، إلا أن لقاء المسلمين الأتراك بالفكر الأوروبي كان أسبق مما حدث في مصر، وذلك هو محور حديثنا في هذا الفصل المختصر.
لقد كان الأتراك العثمانيون أول من طور نظرة موثقة للغرب مبنية على مشاهدات دقيقة على امتداد القرن الثامن عشر، وكانت الطبقة الحاكمة قد واجهت - قبل ذلك سنة 1699م- خطر تقدم التقنية العسكرية الأوروبية، وكانت مهتمة بمعرفة أسباب هذا التقدم وأصوله، لهذا فإن تقرير السفير التركي محمد أفندي جلبي (1720م) وبعد زيارة إلى باريس، جاء ليسجل أول نظرة إلى جانب من الحياة الأوربية لذلك العصر. وقد شكل التقرير المذكور معرفة أولية لا تخلو من الدقة. ومنذ ذلك الحين أخذت هذه المعرفة أو هذه النظرة تتعزز بمزيد من التقارير المتتالية. وقد تميز تقرير محمد أفندي جلبي بعدة مواصفات:
فقد جاء نتيجة لرغبة الطبقة الحاكمة -كما حصل مع محمد علي في مصر فيما بعد- في إستنبول التي أرادت أن تتعرف أكثر على خصائص
[ ص: 193 ] التقدم الأوروبي... ونذكر أن هذا التقرير شكل نموذجا لتقارير السفراء المقبلين.. حيث قدم إبراهيم متفرقة -وهو دبلوماسي وكاتب ومدير أول مطبعة في إستانبول- بعد عشر سنوات أول محاولة من نوعها تسعى إلى تأسيس علاقة جديدة مع الأوروبيين، وقد عمل على الفصل بين المستوى الديني والمستوى العلمي، داعيا العثمانيين إلى الاستفادة من العلوم الأوروبية، التي كانت سببا في انتصارهم على المسلمين.
وعلى امتداد القرن الثامن عشر، كان تحرير النظرة إلى أوروبا من اختصاص السفراء بالدرجة الأولى، الذين يرسلون إلى عواصم أوروبا..مثل: سعيد أفندي (باريس 1741م) ومحمد درويش أفندي (بطرسبورغ 1754م) ومهتدي عثمان أفندي (بطرسبورغ 1757م) وأحمد رسمي (فيينا ثم برلين 1774م) .
وقد حاول أحمد رسمي أن يفسر أسباب صعود القوة الروسية، فتحدث عن العوالم الاقتصادية والثروات الأولية، مما يشكل تفسيرا (موضوعيا) للصعود الروسي. وقد انتقد النظرة الدينية المبنية على أسطورة قائلة: إن الأتراك قد رصدوا لهزيمة المسيحيين بغض النظر عن عددهم أو قوتهم. وفي نهاية تحليله يدعو إلى ضرورة اتباع سياسة سلم وتسامح تجاه الأمم غير المسلمة، ويعتبر أن الاختيارات السياسية ينبغي أن تتخذ بعيدا عن الحماس الديني، ويدعو إلى الاعتماد على طرائق العسكرية المعروفة في الدول غير المسلمة
>[1] .
[ ص: 194 ] وقد جاءت هذه النظرة المتجددة نتيجة لازدياد المعرفة بأوروبا، ولإلحاح داخلي يمثله تيار إصلاحي عثماني كانت السلطة تقف وراءه في سعيها إلى تقويض سلطة الجهاز الديني وقوات الانكشارية.
ويبدو أن نظرة أحمد رسمي تمثل تبدلا واضحا في النظرة التقليدية إلى (الآخر) ، كما تمثل تجاوزا لمفهوم (دار الإسلام) و (دار الحرب) الذي كان مأخوذا به حتى ذاك الوقت. وقد تعمقت النظرة المنفتحة على الغرب/الآخر مع السلطان سليم الثالث ( 1789-1807م) .
ومع مرور الوقت بدأت دائرة المهتمين بتطوير هذه النظرة تتسع، حيث شملت عددا من الشعراء والسياسيين بالإضافة إلى السفراء والخبراء والعسكريين. (وفي أفق 1876م ظهر لبعض أفراد الطبقة الحاكمة أن التجربة السياسية الأوروبية يمكن تمثلها في الإطار العثماني. وفي حدود 1920م، وبعد قرنين من محاولات تطوير النظرة إلى أوروبا، قامت في تركيا تجربة فريدة كان من جملة ما تطمح إليه إلحاق تركيا بالسياق الأوروبي
>[2] ، وكان قائدها السياسي مؤسس العلمانية - بعد إسقاط الخلافة العثمانية - مصطفى كمال أتاتورك.
وبعد الحديث عن التجربة المصرية والتركية -باقتضاب- في الموقف من الغرب وكيف تطورت، نوجه وجهتنا إلى دول المغرب الإسلامي للحديث عن كيفية تأسيس نظرتها إلى (الغرب) في بدايات احتكاكها به من جهة، وتأثرها بالتجربتين التركية والمصرية من جهة أخرى.
[ ص: 195 ]