الفرع الثاني: الأصل براءة الذمة:
نص على هذه القاعدة ابن نجيم في الأشباه والنظائر
>[1] ، والقرافي في الفروق فقال: "الأصل براءة الذمة حتى يتحقق الموجب، هذا هو القاعدة الشرعية المجمع عليها"
>[2] ، وذكره الزركشي في المنثور
>[3] ، والعز بن عبد السلام
[ ص: 52 ] في قواعد الأحكام
>[4] ، والسيوطي في الأشباه والنظائر
>[5] ، وابن رجب في قواعده
>[6] ، بل لا يكاد يخلو من النص عليه كتاب من كتب الفروع؛ "لأن الذمة خلقت بريئة، عرية عن الحقوق فلا يجوز شغلها إلا بحجة قوية"
>[7] .
هذا، ويعنى بالبراءة في اللغة: الخروج من الشيء والمفارقة له
>[8] .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي للبراءة عن معناها اللغوي؛ لأنهم يريدون بالبراءة في ألفاظ الطلاق: المفارقة, وفي الديون والمعاملات والجنايات: التخلص والتنـزه
>[9] .
كما يعنى بالذمة في اللغة: العهد والعقد والأمان
>[10] ، وفي الاصطلاح: وصف يصير به الإنسان أهلا لما له وما عليه
>[11] . ومن ثم فلو ملك شخص مالا كان أهلا لتملك منفعة ذلك المال، كما أنه يكون أيضا أهلا لتحمل مضرة دفع ثمنه المجبر على أدائه
>[12] .
وعلى ذلك يعنى بهذا الأصل: أن ذمة كل شخص بريئة، أي غير مشغولة بحق آخر، وشغلها يحصل بالمعاملات التي يجريها فيما بعد, ومن ثم
[ ص: 53 ] فكل أحد يدعي خلاف هذا الأصل يطلب منه أن يبرهن على ذلك; لأنه يدعي خلاف الظاهر وخلاف الأصل. ولذا لم يقبل في شغلها شاهد واحد, ما لم يعتضد بآخر, أو يمين المدعي, ولذا كان القول قول المدعى عليه, لموافقته الأصل.
مما سبق يتبين: أن الأصل براءة الذمة من الحقوق, وبراءة الجسد من القصاص والحدود والتعزيرات, ومن الأقوال كلها والأفعال بأسرها. ومن ثم فلو شك هل لزمه دين في ذمته, أو شك في طلاق زوجته, أو شك في نذر فلا يلزمه شيء من ذلك; لأن الأصل براءة ذمته, فإن الله خلق عباده كلهم أبرياء الذمم والأجساد من حقوقه وحقوق العباد إلى أن تتحقق أسباب وجوبها
>[13] ، وبهذا يظهر جليا أن الإنسان خلق حرا طليقا يكتسب ما يشاء ويلتزم بما يشاء، في حدود إمكاناته وفق ضوابط الشرع الحنيف.