تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وجعلنا من الراشدين، يقول تعالى: ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ) (الحجرات:7)، ذلك أن الإيمان بالله الواحد سبحانه وتعالى لمن يدرك أبعاده وآثاره في العقل والنفس والحياة والمجتمع يبصر أنه هو النعمة الكبرى، التي لا تعدلها نعمة، إنه جماع النعم، بل لعلنا نقول: إن سائر النعم التي يبصرها الإنسان أو يغيب بعضها عنه إنما هي ثمرة ونتاج لتلك النعمة الكبرى، نعمة الإيمان بالله الواحد، وعلى رأس تلك النعم التي لا تحصى نعمة الحرية، وإيقاف الظلم والتسلط، وتحقيق الكرامة والمساواة بين الخلق.
وقد تكون الإشكالية الحقيقية في عدم إدراك أبعاد الإيمان بالله الواحد؛ وعدم الإدراك هذا والذهول عنه لا يجعلنا نبصر الفارق الكبير بين المؤمن بالله الواحد وبين الكافر إلا في الادعاء والأسماء والعناوين، أما المعطيات العملية في واقع الحياة والناس فقد تكون واحدة، مع الأسف، فقد يتميز الكافر بسلوك أو إبداع إنتاج أو بعلاقات عمل، وقد يتميز المؤمن بالله [ ص: 5 ] بشيء من ذلك، لكن الفارق الكبير يبقى غير ملاحظ في الغالب، ومن هنا قد لا نرى الأثر المطلوب لعقيدة التوحيد في حياة الإنسان، أو على حياته، وقد لا يحس بها وبعطائها؛ لأنه تلقاها أشكالا ورموزا وتقاليد بالتوارث الاجتماعي والاستسلام والتسليم، دون أن يفكر في أبعادها، أو تبلغ هي أبعادها في نفسه، ودون أن تنعكس على جميع أنشطته الحياتية.
وفي تقديري أن الفرد المؤمن لو وعى هذه العقيدة وعيا كاملا لوعى رسالته ونفسه ومجتمعه وعالمه واستعلاءه الإيماني، يقول تعالى: ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) (آل عمران :139)، والاستعلاء بالإيمان محمود ومطلوب وهو غير الكبر المذموم بطبيعة الحال.
فأولى معطيات عقيدة الوحدانية هي تحرير لنفس الإنسان وواقعه من كل أنواع التسلط والظلم والعسف، ونسخ وإلغاء لسلطان الطواغيت والآلهة بكل أشكالها؛ هي تحرير للإنسان، واسترداد لإنسانيته وأساس لحريته، وخلاص لعقله من الخرافات والأساطير والخوارق، وإعادة الاعتبار لوظيفته ومكانته، وخلاص لضمير الإنسان من الذل والخنوع والعبودية لأحد غير الخالق، الذي يعني القوة المطلقة، بكل خصائصها وصفاتها.
فعقيدة التوحيد في الحقيقة عقيدة التحرير والانعتاق، وسبيل الخلاص من الظلم والفساد والاستبداد وتسلط الإنسان على الإنسان تحت شعارات متنوعة وبأساليب ووسائل شتى، ذلك أن تاريخ البشرية كان ولا يزال مثقلا بالظلم والقهر والاستعباد والاستبداد والطغيان. [ ص: 6 ]
فالإنسان بفطرته ينزع نحو استكمال شخصيته واستقلاليتها، والتمتع بحريته، وعدم القبول بالتسلط عليه من أحد، وخاصة إن كان خلقا مثله، وسوف لا يجد ذلك التحرر والانعتاق والاكتمال إلا بالإيمان بالله، لذلك نقول: إن الإسـلام دين الفطرة، وهذه حقيقة، فالإنسان بطبعه وفطرته يأنف التسلط والقهر والاستعباد، ويسعى للخلاص والتمتع بإنسانيته كاملة غير منقوصة.
ومن هنا يتقرر في الحقيقة والواقع أن الذين يحاربون عقيدة التوحيد (الإيمان بالله الواحد) أو الإيمان بشكل عام إنما يحاربونها لأنها تعيدهم إلى بشريتهم، وتسويهم ببقية الخلق، وهم يريدون أن يقيموا من أنفسهم آلهة على الناس؛ ولكل عصر آلهته من الطغاة والمستبدين والمستعبدين والمستغلين لخلق الله؛ فالإيمان بالله قوة مطلقة لا حدود لها؛ إنه الخالق والرازق، والمحيي والمميت، والنافع والضار، يعلم ما يخفي الإنسان وما يعلن، بابه مفتوح ليلا ونهارا لاتصال الإنسان به، وفي كل الأحوال والأوقات، والبوح له ميسر لكل إنسان، وطلب العون منه مباشرة، دون وسيط، كائنا من كان، يحول دون التسلط والاستغلال بأي شكل من الأشكال وتحت أي ذريعة من الذرائع حتى ولو كانت باسم الدين.
إن الفيصل الأساس في التحرر والحرية هو إلغاء الواسطة بين الله والإنسان، وعدم وجود طبقة رجال دين يحتكرون الصلة بالله ويدعون التحدث باسمه، وذلك لا يقل خطورة من الكفر بالله، من حيث الحرية [ ص: 7 ] والتحرير؛ ذلك أن تاريخ الإنسانية مليء بالاستغلال وأكل الدنيا بقيم الدين: ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) (التوبة:34)، ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) (آل عمران :77)، ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ) (البقرة:79) حيث طبقة رجال الدين، والكهان، والأكليروس كانوا الأخطر والأشد ظلما وابتزازا في تاريخ الإنسانية، سواء من حيث الإساءة للدين وتشويه قيمه وتهريب الناس منه، أو بممارستهم وتشكيلهم طبقة لسدنة الاستبداد السياسي وتسويغ مسالكه واضطهاده وطغيانه؛ لذلك فإن التحرر من طبقة رجال الدين والتواصل مع الله مباشرة يعتبر مفرق طريق بين سبيل الله المستـقيم والسبل الأخرى، التي يقف على رأس كل منها شيطان من شياطين الإنس.
إن الإيمان بوجود واسطة بين الله والإنسان، من حاكم أو كاهن متحدث باسم الله أو غير ذلك، أو بوجود طبقة متميزة عن الناس بمسوحها ورسومها وأشكالها وممارساتها يمكن أن يكون الأخطر على قيم الدين وصور [ ص: 8 ] التدين من الكفر الصراح؛ ذلك أن وجود هذه الطبقة، إضافة إلى ممارستها التسلط على حياة الناس وضمائرهم وأموالهم وأعراضهم بأسوأ أنواع التسلط، تكون سببا في تنفير الناس من الدين وكرههم له وهروبهم منه، وليس ذلك فقط وإنما إلغاء النزوع إلى التدين كفطرة بشرية وكقلق سوي يحرك الإنسان صوب الإيمان بالله، القوة المطلقة، التي يستنجد بها في أزمانه ومعاناته، التي لا تخلو الحياة منها، ويساهم بالعبودية، ويوسع دائرتها، ويجعل الخلاص منها بالتمرد ورفض الدين، الذي تجسد في هذه الطبقة البشرية، بكل فواحشها وموبقاتها واستغلالها، وهي في الحساب النهائي لا تخرج عن أن تكون بشرا من البشر.
لذلك فإن إلغاء طبقة رجال الدين والواسطة، بكل أشكالها، بين الله والإنسان هي من أعظم عطاءات عقيدة التوحيد، أو عقيدة التحرير؛ ذلك أن إلغاء هذه الطبقات والواسطات هي التحرير والتحرر، وإن كان وجود الكهانة والأكليروس، والتمتع بهذه الامتيازات الكبيرة، والشراء بآيات الله ثمنا قليلا، وأكل الدنيا بالدين لم تتوقف في تاريخ التدين، ولم ينجو منها واقع التدين حتى في مجتمعات الرسالة الخاتمة، على الرغم من تحذير عقيدة التوحيد في الإسلام من الوقوع فيها.. لكن الشر من لوازم الخير دائما، وجدلية الحياة هي مدافعة بين الحق والباطل والاستقامة والانحراف.
ولا شك أن الإيمان بعقيدة التوحيد والوحدانية، الإيمان بالله الواحد، لمن يتأمل أبعاده هو أعلى أنواع الحرية، ذلك أن من شعارات الإسلام [ ص: 9 ] الممتدة التي أكدتها قيمه في الكتاب والسنة وشعائره التي تجلت في مجتمعاته بشكل عام، وإن حـاول بعض الظلمـة والكهنة تغييبها في بعض الفترات أو ادعاء نسخها، قوله تعالى: ( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256)، وقوله: ( لست عليهم بمصيطر ) (الغاشية:22)، وقوله: ( فإنما عليك البلاغ ) (آل عمران :20)، وقوله: ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس:99)، وقوله: ( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) (ق:45).
فالتنـوع والاختـلاف سنة ماضية في الخلق، يقول تعالى: ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ) (هود:118)، حتى لقد اعتـبر علمـاؤنا أن إيمان المقـلد لا يجوز؛ لأنه محاكاة؛ ولأن الإكراه زراية بكرامة الإنسـان، وإسقاط لإنسانيته، وإلغاء لما فضله الله به من ملـكة الاختيـار؛ فكيف والحـالة هذه يجوز إكراه الناس على الدخول في الإسلام ؟!
وصلى الله على من كان محور رسالته الدعوة إلى التوحيد والانعتاق من العبوديات: ( يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) (أخرجه الإمام أحمد)، الذي أصبح بسبب ذلك مستهدفا للظلمة والطغاة، إرهابا وإرغابا، ليتحول عن دعوته إلى التوحيد، التي سوف تسقط آلهتهم وتوقف جبروتهم، حتى من أقرب الناس إليه، لقد عرضوا عليه كل متع الدنيا من المال والنساء والزعامة والرئاسة فكانت قولته التي ما يزال يسمع صداها في تاريخ [ ص: 10 ] الإنسانية وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: ( يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه، ما تركته ) (سيرة ابن هشام).
فلقد كانت عقيدة التوحيد منطلقا للحرية والتحرير، تحرير الناس من الطغيان والكهانة، وإعلان المساواة بين الناس، بعيدا عن الألقاب والأجناس والكيانات الموهومة الكاذبة والمزيفة.
لقد أصبح ميزان التفاضل والكرامة اختياريا، فالأكرم هو الأتقى، وبذلك أعيد بناء الإنسان، وأعيد نسيج المجتمع، وتم إلغاء الطبقية والعنصرية والطائفية بكل ملحقاتها واستحقاقاتها.
وبعد:
فهذا "كتاب الأمة" الثامن والثلاثون بعد المائة: "الحرية وتطبيقاتها في الفقه الإسلامي"، للدكتور محمد محمود محمد الجمال، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، في سعيها الدائب لبناء الوعي وإدراك أبعاد عقيدة التوحيد، أو عقيدة التحرير، بالنسبة للمسلم المعاصر، واسترداد فاعليتها في الفكر والفعل والعقل والسلوك والبناء الأخلاقي، لتتحول إلى رافعة أساس في النهوض والتغيير وإيقاظ الهم المستمر، الذي يشكل بصيرة العقل، وغذاء الروح، وإغناء العاطفة، وعلو الهمة، وتجميع الطاقة وتحريك الفاعلية والقدرة على تجاوز الصعاب، وتحقيق الاتصال بالقوة المطلقة القادرة [ ص: 11 ] على انتشال الإنسان مما يعاني، وحمايته من السقوط تحت أقدام الطغاة والآلهة المزيفة ووطأة أشد الظروف.
ولعلنا نقول: إن تجديد معاني الدين في النفس والمجتمع والحياة ليتجدد الإنسان ويولد من جديد هو مقصد العبادات جميعها، وهدف التربية بكل شعبها، ومنطلق الدعوة والأنشطة الثقافية والفكرية والوعظية، فإذا توقف التجديد والتغيير والتفكير بالارتقاء تحولت التعاليم إلى تقاليد وأسوار وقيود وأنصاب ورموز ورسوم فاقدة للمعنى، تحركها العادة، وتغيب عنها العبادة والعبودية، وتنتقص فيها عقيدة التوحيد والتحرير، على الرغم من وجود شعاراتها على الألسن وفي العبادات؛ فشهادة أن لا إله إلا الله تعلن كل يوم خمس مرات من على أعلى المنابر لكنها في الغالب لا تلامس إلا أسماعا نائمة غير فاعلة ولا منفعلة؛ ذلك أن التجدد والتزود بمعانيها مطلوب دائما للحافظ على زخمها ووعيها واستشعار دورها في التحرير والخلاص.
ومن هنا، فالتجديد لا يقتصر على الاجتهاد في الجانب التشريعي وإيجاد حلول شرعية جديدة وأقضية شرعية جديدة للحوادث الجديدة، وهي آلية مستمرة استمرار الحياة، ودليل حيوية الإسلام وخلوده وصلاحيته لكل زمان ومكان، وإنما التجديد الحقيقي والتجدد يمتد ليتمحور حول إعادة بناء العقيدة الصحيحة، والوعي بها، وإدراك أبعادها، ونفي نوابت السوء والإصابات وعلل التدين عنها، التي يمكن أن تتسرب إليها؛ للحفاظ على امتدادها واستمرارها، واستعادة دورها في إحياء فاعلية الإنسان وحريته [ ص: 12 ] وتخليصه من العبودية، بكل أنواعها، وتحرير ضميره وعقله ونفسه، وإعادة ربطه بالقوة المطلقة القادرة على انتشاله مما يعاني، والحيلولة دون سقوطه، مهما اشتد الظلم وعظم شأن الظالمين.
والأمر الذي قد يكون من الضروري الإشارة إليه أن معظم جهودنا في التجديد وساحاته وميادينه كانت ما تزال تتجه صوب المجال التشريعي، على أهميته وضرورته، على أن العقيـدة هي العقيـدة، في كل زمان ومكان، ولا تحتاج إلى تجديد، وهذا صحيح من بعض الوجوه، لكن من الصحيح أيضا أنه يعتري العقيدة الكثير من الغبش، فتفتر فاعليتها، وينكمش دورها، وتنبت حولهـا الكثير من البدع والخرافات، ويتسرب إلى أصحابها الكثير من الفكر المعوج، وتنسج حولها الكهانات الدينية، وكل ذلك بحاجة إلى تنقية وعلاج.
إن حركات التجـديد والإصـلاح، التي تمحـورت حـول العقيدة مما اعتراها من البدع والخرافات من مثل الاستغاثة بالقبور والصالحين والتوسل إليهم وطلب الشفاعة منهم وكل ما قذفت به فترات التخلف والانحطاط من علل التدين، والاستغناء بذلك عن القيام بالعبادة... حقق الكثير مما يمكن أن يطلق عليه: "تنقية العقيدة" وتصفيتها مما لحق بها وشوه حقيقتها، لكن ذلك يشكل نصف الطريق -في رأينا- ويبقى الأمر الأهم والمكمل الذي لا بد منه، وهو التوجه بالتجديد صوب العقيدة ليتجدد المسلم ويعاد بناء مهاراته المعرفية والسلوكية والوجدانية، وتنبعث فاعليته من جديد عندما يدرك أبعاد عقيدته؛ [ ص: 13 ] فليس التجديد، نفي الأمور السلبية فقط، من إلغاء الواسطة من الأموات والصالحين وتقديم النـذور والذبائح للقبور والأطرحة والأولياء والاستعانة بغير الله، وهذا كله مطلوب ومهم - كما أسلفنا- لكن المطلوب الأهم تجديد معاني العقيدة وأبعادها، التي تسترد الفاعلية، وتجمع الطاقة، وتدفع إلى اكتشاف مواطن الخلل، للإقلاع من جديد.
لذلك نرى أن تجديد الدين الوارد في قوله، عليه الصلاة والسلام: ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) (أخرجه أبو داود)، إنما ينصب بالدرجة الأولى على تجديد معاني العقيدة وإبراز أبعادها في النفس والحياة والمجتمع والدولة والعالم.
ذلك أنه بتجديد العقيدة تتجدد الحياة والحركة والدعوة والفكر والفقه والفعل، بعيدا عن فهم العقل المتخلف للتجديد.
ولا يقل عن ذلك أهمية دراسة المعوقات والعثرات التي تحول دون أداء العقيدة دورها في بناء الشخصية الاستقلالية، وتحقيق الحرية والكرامة، وتحرير الناس من عبودية غير الله، واستشعار أن العقيدة خلاص وتحرير ومساواة وكرامة، وأن المهم دائما المحافظة على ذلك، وتضمينـه مناهج التربية والتعـليم والإعـلام، والأنشطة الفكرية كافة، وربط الجوانب البشرية والاقتصادية والاجتماعية بجذورها العقيدية، لتبقى شعلة الإيمان بعقيدة التوحيد (لا إله إلا الله) متقدة ومضيئة، تجددها العبادات بكل شعبهـا، ويعلنهـا الآذان خمس مرات في اليوم، لتحقيق اليقظة، والتحذير [ ص: 14 ] من الغفـلة، ذلك أن من مصلحة الظلم والاسـتعباد والاستبداد تحويلها إلى تراث لا يغادر المآذن إلى صنـاعة الواقـع، ولا يجاوز الشفاه إلى القلوب والعقول.
ولا نرى مستنكرا أن نقول: إننا في هذا المجال وإلى حد بعيد نعيش في هذا المجال ثقافة يمكن أن نطلق عليها "ثقافة استهلاكية" نتكئ فيها على سير وإنتاج الجيل الأول في مجال فاعلية العقيدة وإعادة صياغتها للإنسان، وهذا طيب بلا شك لتقديم الأنموذج وإثارة الاقتـداء، والتدليل على واقعية العقيدة أو تجليتها في واقع الناس، لكن الإشكالية أن يتحول إلى حالة سلبية عندما يقتصر على الفخر ومعالجة مركب النقص وعدم القدرة على إنتاج نماذج في كل زمان ومكان تتجلى فيها أبعاد العقيدة في مسالك الناس بشكل كامل.
ويبقى المطروح والمطلوب دائما: كيف نعيد لهذه العقيدة رواءها وعطاءها، وندرك أبعادها، ونحقق الانفعال بها والتفاعل معها، ونكسر أسوار التقليد والرتابة اليومية في الاقتصار على التلفظ بها، فنحقق التحرر والتحرير، ونسعد بممارسة الحرية الحقيقية ؟ ذلك أن مجرد اللفظ الذي لا يحرك سلوكا ولا يشكل نقلة ولا يحدث تغييرا ولا يحقق حرية وتحررا لا يمكن أن يترتب عليه عظيم الثواب الذي ورد في المأثور: فـ ( من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ) (أخرجه الترمذي)، فهل يعقـل أن يدخل الإنسـان الجنة، التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ويتميز عن غيره بلفظ لا يغادر [ ص: 15 ] الشفتين ؟ وهل يعقل أن يكون الفيصل بين الإيمان بكل عطائه والكفر بكل أخطاره على النفس والمجتمع مجرد حركة الشفة بـ (لا إله إلا الله) ؟!
وقضية أخرى قد تعتبر من لوازم عقيدة التوحيد (التحرير) واستحقاقاتها ومسؤولياتها، وهي أن المؤمن بها ليس مسؤولا عن خاصة نفسه، أو تحرير نفسه باعتناقها والارتقاء بها، وإنما مسؤوليته تمتد لتحرير الآخرين، وتأمين الحرية لهم، ورفع الظلم والإكراه عنهم، وإزالة العوائق من أمام حرية الاختيار، حتى لو كلفه ذلك حياته وماله، فلا قيمة للحياة في الإسلام بدون الحرية، ولا اعتبار للإنسان بدون حرية الاختيار.
لذلك نرى من أهم مشروعيات الجهاد رفع الظلم، وإيقاف الإكراه، والحيلولة دون الفتنة، وهي إجبار الناس على مالا يختارون، يقول تعالى: ( والفتنة أكبر من القتل ) ؛ لأن سلب الحرية أو انتقاصها قتل للشخصية، ولو استمرت الحياة كسائر الحيوانات، وقد تجلى ذلك واضحا في قوله تعالى، في رواية قصة سرية عبد الله بن جحش، رضي الله عنه، عندما وقع القتال خطأ من المسلمين في الأشهر الحرم وعاب المشركون على المسلمين ذلك، يقول تعالى: ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو [ ص: 16 ] كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) (البقرة:217)، إن قوله تعالى: ( قل قتال فيه كبير ) اعتراف من المسلمين أن اختراق حرمة الشهر الحرام والقتال فيه كبيرة من الكبائر، لكن هذا القتال الكبير هو دون الكثير من الكبائر التي يفعلها الكفار، ذلك أن الكفر بالله والصد عن المسجد الحرام أكبر؛ والفتنة، بمنع الناس من الإيمان وحرية الاختيار، أكبر من القتل.
ففتنة الناس وإيذاؤهم والحيلولة دون حرية اختيارهم والتعدي عليهم، وصدهم عن المسجـد الحرام، وسلبهم إنسانيتهم وكرامتهم واختيارهم أكبر عند الله من قتلهم، وأخطر وأبعد أثرا من إزهاق روحهم؛ فالفتنة أكبر من القتل.
لذلك فإن اختراق حرمة الشهر الحرام وإن كانت كبيرة لكنها كبيرة دون كبائر يمارسها من يعيبون على المسلمين القتال في الشهر الحرام اشتباها.
لذلك قرر العلماء أن من مشروعية الجهاد القتال حتى لا تكون فتنة، يقول تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) (البقرة:193).. وأكثر من ذلك، فلقد رأى الكثير من الفقهاء أن الجهاد والقتال ليس بسبب الكفر وإنما لرد الظلم ورفع الفتنة وتحقيق حرية الاختيار؛ لأن شعار الإسلام الكبير: ( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256)، فالحرية لرفع الظلم ورد العدوان ( والكافرون هم الظالمون ) (البقرة:254). [ ص: 17 ]
إن تحقيق قيمة الحرية واسترداد إنسانية الإنسان وإيقاف التسلط والظلم هو بالنسبة للمسلم دين وعقيدة ومسؤولية وتكليف شرعي، والعمل على إشاعتها ونشرها في الحياة بعد تحقيقها في ذاته، هو رسالته في هذه الحياة وإحدى عباداته الكبرى.
وإذا اعتبرنا أن حرية التفكير هي أساس التنمية والإبداع والارتقاء بل هي أساس الحريات جميعا أدركنا الأهمية الكبرى لجعل الإسلام الاجتهاد (التفكير وعطاء العقل) أحد مصادر التشريع بعد الكتاب والسنة والاجتهاد الجماعي (الإجماع)، وكيف أن الإسلام جعل الاجتهاد وتوليد الأحكام الشرعية العبادية مرتكزا إلى حرية التفكير، وأكثر من ذلك لقد جعل للمجتهد المخطئ أجرا وللمصيب أجران؛ حتى ولو اجتهد وأخطأ فله أجر على إعمال العقل والنظر والمقارنة والمقايسة والمناقشة، وكلها مسائل تتمحور حول قيمة الحرية وتنبع منها.
ولعل من أعظم معطيات الحرية هذا التنـوع والغنى والتعدد في الأحكام التشريعية والمذاهب الفقهية، حتى على مستوى المذهب الواحد، والمجتهد الواحد، والعصـر الواحد، ذلك التنوع والتعدد الذي استوعب جميع الاحتمـالات والحـالات، إنه الدليل الواضح على مناخ الحرية الفكرية والدينية، التي جاء بها الإسلام، فكانت وراء هذا العطاء والإبداع والإنتاج الفكري. [ ص: 18 ]
لذلك حسبنا أن نقول هنا: إن الإسلام اعتبر أن الاجتهاد والتفكير هو أحد مصادر التشريع وتوليد الأحكام الشرعية؛ بمعنى أن ما يجهده المجتهد المستكمل لشروطه يصبح شرعا ودينا يتعبد به المسلم.
وقد نقول في ذلك: إن الحرية في دين الإسلام لم تقتصر على الشأن الشخصي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي وإنما شملت أخطر الشؤون وهو الشأن الديني والفقهي والتشريعي بعد أن تحول التدين، في تاريخ النبوات، إلى كهانات واستبداد فأقام الحكم الثيوقراطي (الديني)، حيث الحاكم نائب عن الله، حاكم بإرادته، لا تجوز مخالفته ولا معارضته ولا حتى نصحه؛ لأنه معصوم عن الخطأ!
وبالإمكان القول هنا: إن الإسلام هو الذي حل المعادلات الصعبة تاريخيا، وفي مقدمة ذلك فصل الحكم عن الألوهية، وإعادة الحاكم إلى بشريته، وجعل انتخابه محكوما بحرية الاختيار، وأقام عقدا اجتماعيا بين الحاكم والمحكوم: "أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم" (من خطبة سيدنا أبي بكر، رضي الله عنه، بعد أن انتخب الخليفة الأول للمسلمين)، وجعل إدارته للحكم شورية؛ والشورى أعلى أنواع الحرية الاجتماعية ( وشاورهم في الأمر ) (آل عمران :159).
كما أن الإسلام هو الذي حل معضلة التدين التاريخية بإلغاء الواسطة وإلغاء الكهانة، وجعل الإنسان حرا في تدينه، ومتصلا مع الله مباشرة، بلا وساطة تستغله وتتحكم فيه. [ ص: 19 ]
والمسؤولية فرع الحرية، كما هو معلوم، فالإسلام أعاد للإنسان حريته واختياره، أعاد له فاعليته، وجعله مسؤولا عن اختياره، ومحاسبا عليه، وبذلك قدم حلا لإشكالية القدر والحرية، والعبودية والحرية، والحاكمية والألوهية؛ ولأول مرة في تاريخ التدين لم يلغ القدر حرية الإنسان واختياره وإنما دفعه إلى المغالبة للأقدار، والتحول من قدر إلى قدر؛ لأن الأقدار هي سنن الله وقوانينه في الحياة، في الأنفس والآفاق، وأن فهم السنن هو السبيل إلى مغالبتها وتسخيرها، ولذلك فالقدر في العقيدة الإسلامية دافع ومحرك ومحرض حضاري وليس معوقا ومانعا ومعطلا لإرادة الإنسان، بل هو حافز لها.
إن الإيمان بالقدر يخلص الإنسان من الاستغراق في حسرات الماضي، وإهدار طاقاته وأوقـاته في البكاء على الأطـلال والانغمـاس بالهمـوم، التي لا يستطيع استردادها وإعادة تركيبها، وإنما القدر يحول طاقاته ونشاطه لتجاوز الماضي، الذي لا يمكن استعادته إلى المستقبل، الذي ما تزال فرصه متاحة، وإحسان بنائه من خلال عبرة الماضي؛ فالإيمان بالقدر انتشال للمؤمن به من التبدد والضياع، وتوفير للطاقة، ومحطة للانطلاق نحو بناء الحاضر وصناعة المستقبل.
لقد أوقفت عقيدة التوحيد كل أنواع التسلط والعبودية لغير الله؛ لأن أصل الشر والظلم في الدنيا كامن في تسلط الإنسان على الإنسان، الذي أخذ في التاريخ أشكالا وألوانا مختلفة من تسلط صاحب الأرض على العاملين فيها (أقنان الأرض)، وصاحب العمل على العامل، ورجل الدين [ ص: 20 ] على الناس، والحاكم على الرعية، والطبقة على غيرها من الطبقات، والحزب القائد على كافة البشر والجماعات والأحزاب، ولم يكن أمر اللون والجنس والتمييز العنصري والقوم والطائفة بأقل خطرا، من ناحية التسلط.
لذلك لا يمكن تحقيق العدل والمساواة والحرية إلا بإيقاف التسلط والاستغلال، ولا يمكن إيقاف ذلك إلا بإلغاء هذه الآلهة، والإيمان بالله الواحد، وتحقيق المساواة أمام الله الخالق الواحد للناس جميعا، والحذر من الوثنية، التي تتسرب للإنسان في حالات الضعف والعجز: ( ... يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) (الأعراف:138).
وقضية الحرية في الاجتهاد وتوليد الأحكام وتحقيق خلود الإسلام وبيان قدرته على الإنتاج في جميع شؤون الحياة يعتبر من أهم ما تميز به عطاء العقيدة الإسلامية ومارسه المجتمع المسلم تاريخيا، بكل عناصره وأجناسه وألوانه، فالحرية للجميع؛ لأنها منحة من الخالق وليست منة من أحد، وأي اعتداء عليها أو انتقاص منها اعتداء على شرع الله، وأحد نواميس الكون وسنن الحياة تتطلب مجاهدته ومقاومته.
ولعلنا نقول: إن فضاء الحرية، الذي منحته العقيدة الإسلامية، شكل مناخا عجيبا حاضنا للمجتهدين والمفكرين والعلماء والمثقفين، فكانت العطاءات والإبداعات المتنوعة التي لم تتكرر بمجموعها في أية حضارة من الحضارات؛ وأكثر من ذلك فلقد كان مناخ الحرية وسقفها المرفوع [ ص: 21 ] وفضاؤها الواسع حاضنا دافئا لغير المسلمين أيضا، من اليهود والنصارى، وكان ملاذ المضطهدين من العالم كله.
إن الإفادة من هذا المناخ الحاضن في مجال الاجتهاد والفقه التشريعي بلغ مدى لا يطاول، ودلل على مرونة استوعبت جميع الحالات والاحتمالات في كل آن ومكان، وعرض لجميع الاحتمالات مما أنتج ثروة من الفقه المقارن تخصب العقل وتفتح منافذه كلها على الجهات كلها، وتمنح المكلف سعة وراحة ورحمة في تعامله مع قيم الكتاب والسنة يحفزه للتفكير والاجتهاد والتخطيئ والتصويب ويحول دون التعصب والانغلاق والتوهم باحتكار الصواب وامتلاك الحقيقة.
وقد يكون صحيحا إلى حد بعيد أن هذا النمو والامتداد والاجتهاد تبحر في الجانب التشريعي، من فقه العبادات والمعاملات، وضمر وانكمش في الجوانب الأخرى، فالفقه التشريعي يكاد يكون هو الثروة التراثية الكبرى في هذا المجال، أما الفقه السيـاسي والإداري والتربـوي والتنموي... إلخ، فلم يكتب له الامتداد بسبب سطوة السلطان وانفصال السلطان عن القرآن إلا من بعض الفتاوى المقدورة في مجال التجنيس ومحاربة الاستعمار ومسائل الولاء والبراء، التي شكلت منعطفات كبرى في تاريخ العمـل السياسـي، أما فيما وراء ذلك فلا يخرج الأمر عن فتاوى سلطانية، أو فتاوى تحت الطـلب للسـلطان لتسويغ سياساته وتبرير أعمـاله ومسالكه أمام الجمهور المسلم. [ ص: 22 ]
وقد يكون من أخطر المعوقات العقلية والإصابات الفكرية والانتقاص لقيم الحرية والانتكاس لمسارها إغلاق باب الاجتهاد باجتهاد وحجج واهية، ضيقت مجال الحرية، وأوقفت النمو، وحاصرت الامتداد، وأغلقت العقل، وقضت على مرونته وممارسته لوظيفته في الامتداد بالوحي وتحقيق خلوده في واقع الناس، في كل زمان ومكان، ولم يدر من أقدموا على إغلاق باب الاجتهاد بحجة حماية الشريعة والحيلولة دون الدخيل عليها لعدم الأهلية، أن الحرية وإطلاق الاجتهاد والمناقشة والمقارنة والمحاورة تسقط الردئ من الاجتهادات وتعري أصحابها، وتحصحص الحق، وتحرك سنة المدافعة في الحياة، فكان أن توقف أو كاد أن يتوقف الفقه التشريعي، كما أوقف الفقه السياسي، مما فتح الباب واسعا أمام التعصب والتقليد وإفرازات عقلية التعصب من التأثيم والتكفير والتجريم وسائر الصور المشوهة لمرونة الشريعة الإسلامية وسعتها، التي جاءت لتهذيب الإنسان والارتقاء بإنسانيته وليس لتعذيبه وإلغاء إنسانيته وجعله آلة بلا إرادة، وأقام حواجز وأسوارا مخيفة بين القيم الإسلامية وتنزيلها على واقع الناس، لذلك لم تقتصر الإصابة على العقل والتفريط في وظيفته، وإنما امتدت بسبب ذلك إلى الوحي أيضا بمحاصرة امتداده وعطائه، فاقتصر العقل على سلوك مدارج الفخر والتبرك.
لذلك نقـول: إن الإيمان بالله الواحد والعبودية له حرية للإنسان، بكل أبعـادها، والحرية تعني الانعتاق من جواذب الأرض والارتقاء إلى مدارج الكمال. [ ص: 23 ]
فالمسلم إذا أدرك إيمانه وعقيدته وتحرر بها يصبح إنسانا جديدا متجددا في كل عصر، يقدم أنموذجا يثير الاقتداء على المستويات كافة.
والمسلم بعقيدته وتحرره يصبح من أشجع الناس، لأنه يعلم أن النفع والضرر بيد الله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) (أخرجه الترمذي )، ومن أكرم الناس؛ لأنه يعتقد أن الأكرم هو الأتقى، يقول تعالى: ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ... ) (الحجرات:13)، ويقول: ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) (التغابن:16).
والمسلم بعقيدة التوحيد يصبح من أعدل الناس؛ لأنه يعتقد أن الله أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ... ) (الحديد:25)، ويقـول تعالى: ( ... ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) (المائدة:8)، ( ... وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ) (الأنعام:152).
والمسلم بعقيدته أطول الناس عمرا؛ لأنه يؤمن بالأنبياء جميعا من لدن آدم، عليه السلام، ويؤمن بما بعد الحياة الدنيا، وبأن الموت ليس انطفاء [ ص: 24 ] للحياة وإنما نقلة لحياة أخرى يعمل لها، وأن ثوابه وعطاءه ممتد بعد الموت: ( إذا مات الإنسـان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ) (أخرجه مسلم).
والمسلم بعقيدته يصبح أكثر الناس إيثارا وبعدا عن الأثرة؛ لأنه يعلم موعود الله وثوابه، يقول تعالى: ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) (الحشر:9).
والمسلم بالإيمان بالله الواحد يصبح أنفع الخلق إلى الناس؛ لأنه يعلم أن أقرب الناس إلى الله أنفعهم للناس: ( أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس ) (أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الشيخ الألباني).
والمسلم بإيمانه يصبح أرحم الناس بعباد الله وخلقه؛ لأنه يعلم أن الراحمين يرحمهم الرحمن: ( الراحمون يرحمهم الرحمن ) (أخرجه الترمذي)، ( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) (أخرجه الترمذي)؛ ويعتقد أن الغاية من عقيدته ورسالته تحرير الناس وإلحاق الرحمة بهم: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107).
والمسـلم بعقيـدته يتحول ليصبح من أكثر النـاس إحسانا للخلق؛ لأن من عقيدته: ( وأحسن كما أحسن الله إليك ) (القصص:77)، ( ما على المحسنين من سبيل ) (التوبة:91).
والمسلم بإيمانه بالله الواحد إنسان منفتح يقبل التعددية، التي بدأت مع الخطوات الأولى لمجتمع المسـلمين، فهو أبعد الناس عن العنصرية؛ لأنه يعلم [ ص: 25 ] أن الناس من أصـل واحـد: ( ...ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى... ) (أخرجه أحمد).
والمؤمن بالله هو الأمين على أموال الناس وأعراضهم: ( المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ) (أخرجه الترمذي )؛ ( المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم ) (أخرجه ابن ماجه).
والمسلم بعقيدته يصبح عنصر سلام وأمن: فـ ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) (أخرجه البخاري).
والمسلم بعقيدة الوحدانية يصبح أكثر الناس تضحية، فهو يضحي بنفسه وماله، يجاهد ويستشهد في سبيل تحقيق حرية الاعتقاد ودرء الفتنة؛ لأنه يدرك مدلول قوله تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) (الأنفال:39).
وغير ذلك من المعاني الغائبة عن الحياة الإسلامية ومقتضيات عقيدة التوحيد كثـير...
فليـس تجديد العقيـدة مقتصرا على نفي الشرك والواسطة والاستعانة بالأضرحة والقبـور والصالحين فقط، وفي هذا خير كثير -كما أسلفنا- وإنما هو ممارسة التوحيد وتجديد معانيه واستردادها في النفس.
ويبقى السؤال الكبير: كيف نجدد الدين ونعيد فاعلية العقيدة في النفس، لنغير ما بها فيتغير المجتمع والناس ؟ [ ص: 26 ]
وبعد:
فهذا الكتاب يشكل جهدا مقدورا في بيان مناخ الحرية ومحاضنها، الذي أنتج هذه الدينامية الفكرية والحركة الاجتهادية والثروة الفقهية، التي تدلل على مرونة القيم الإسلامية في الكتاب والسنة وفضاءاتها الواسعة، وقدرتها على الاستجابة للمستجدات والوقائع، في كل زمان ومكان، وتحقيقها لخلود الإسلام وامتداده وقدرته على الإنتاج في كل آن، ورعايتها لحرية التفكير، وإطلاقها لقدرات العقل، واستيعابها لكل الحالات، وسعتها لكل الاحتمالات، الأمر الذي يشكل رحابة للمكلف، ورحمة به، وارتقاء بمداركه، ويفكك أسوار التقليد والتعقيد، عدو الحرية، ويحمي نسيج المجتمع من التمزق، ويحـول دون التوهم بامتـلاك الحقيقة أو احتكارها من قبل أحد، ويحول دون ممارسات التكفير والتأثيم والإرعاب الفكري.
إن جهد المؤلف وعطاءه كان مضاعفا، فهو من جانب يؤسس ويؤصل لمناخ الحرية وتجلياته في إطار الفقه المقارن، الذي لولاه لما كانت هذه الثروة الفقهية والفكرية والاجتهادية العظيمة، ومن الجانب الآخر يقدم صورا ونماذج من الفقه المقارن، الذي يوسع المدارك ويمرن التفكير ويشعر بالسعة والرحمة؛ فهو كتاب في الفقه المقارن، إضافة إلى تأصيل وتأسيس مناخ الحرية الذي أنتج ذلك كله. [ ص: 27 ]
ولا شك أن الحديث عن الحرية وتطبيقاتها في الفقه يمنح المسلم جرعة كبيرة من الاعتزاز والصمود في وجه كثير من التحديات والممارسات السياسية والفكرية والفقهية اليوم، التي تنتقص من حريته وتحول دون الإفادة من التاريخ الثقافي والسياسي والفقهي في بناء الحاضر وإبصار المستقبل، لكن الأمر الأهم هو: كيف نمتد بذلك في حاضرنا ومستقبلنا ؟ وما هي الوسائل والآليات التي تمكننا من صناعة الحرية وفتح النوافذ في الجدران المسدودة على الماضي والحاضر والمستقبل، حتى نكون في مستوى إسلامنا وعصرنا، وتتحقق ثمرات عقيدة التوحيد (التحرير) في حياتنا، وحتى لا يشكل الكلام عن الماضي أحد المهارب ومعالجة عقدة مركب النقص الحاصل في حاضرنا ؟
ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 28 ]