- تحرير الإمام والعلامة لمحل النـزاع:
بداية، ينظر الشاطبي إلى الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة على أنه خلاف فيما لا أثر له، ولا ضرر على الوضع الاعتباري للمصالح والمفاسد في مسألة التحسين والتقبيح العقليين؛ لأن الاختلاف في المدارك والطرق لا يستوجب بالضرورة الاختلاف في النتائج والغايات، وقد صدر عنه ذلك حين أورد إشكال القرافي اللازم للفريقين، والقاضي بتداخل المصالح والمفاسـد، الذي يؤثر على صحـة موقفيهما من منافع حقيقية الأصل فيها الإذن، ومضار حقيقية الأصل فيها المنع، وما يستتبع ذلك من تحسين وتقبيح بالإعمال العقلي أو النقلي، ويرتفع الإشكال بمراجعة متأنية لحقيقة الخلاف ومحله الأساس.
أما مسألة اعتبار المصالح والمفاسد عند الأشاعرة فيتحصل ذلك بـ:
- استقراء لموارد الشريعة الدالة على اعتبار المصلحة ودرء المفسدة واستقراء أحوال الجادين على الصراط المستقيم ما درئ عنهم من مفاسد.
- واستقراء أحوال الحادين عن الصراط المستقيم وما فاتهم من مصالح.
يقول رحمه الله: "أما على مذهب الأشاعرة، فإن استقراء الشريعة دل على ما هو المعتبر مما ليس بمعتبر، لكن على وجه يحصل ضوابط ذلك، والدليل القاطع في ذلك استقراء أحوال الجارين على جادة الشرع، من غير إخلال بالخروج في جريانها على الصراط المستقيم، وإعطاء كل ذي حق حقه من غير إخلال بنظام، ولا هدم لقاعدة من قواعد الإسلام، وفي وقوع الخلل
[ ص: 70 ] فيها بمقدار ما يقع من المخالفة في حدود الشرع"
>[1] ، ليؤكد في نهاية تحريره للنـزاع بأنه: "لا فرق بينهم وبين الأشاعرة في محصول المسألة، وإنما اختلفوا في المدرك، واختـلافهم فيه لا يضر في كون المصالح معتبرة شرعا، ومنضبطة في أنفسها"
>[2] .
وفي الشأن نفسه يقرر ابن السبكي "أن المعتزلة لا ينكرون أن الله تعالى هو الشارع للأحكام، وإنما يقولون: إن العقل يدرك أن الله شرع أحكام الأفعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها، فهي طريق عندهـم إلى العلم بالحـكم الشرعي"
>[3] . لذلك فإن "المعتزلة لا يجعلون العقل هو الحاكم، -كما قال البناني- بل يوافقوننا على أن الحاكم هو الله تعالى، وإنما محل النـزاع بيننا وبينهم في أن العقل هل يدرك الحـكم من غير افتقار إلى الشرع أو لا؟ فعندهم: نعم، لقولهم إن الأفعال في حد ذاتها بقطع النظر عن أوامر الشرع ونواهيه يدرك العقل أحكامها وتستفاد منه، وإنما يجيء الشرع مؤكدا لذلك، فهو كاشف لتلك الأحكام التي أثبتها العقل"
>[4] .
أما اختلافهم في مسـألة وجوب الصـلاح والأصلح لزوما أو تفضلا، فلا يعدو كونه اختلافا صوريا شكليا كذلك، أما من حيث جوهره وغايته
[ ص: 71 ] فالأصل في ذلك الوفاق، وقد ضرب الشاطبي لذلك مثال التخطيء والتصويب في الاجتهاد، إذ قال، رحمه الله: "ويظهر أن القاعدة جارية على كلا المذهبين؛ لأن الأحكام على مذهب التصويب إضافية، إذ حكم الله عندهم تابع لنظر المجتهد، والمصالح تابعة للحكم أو متبوعة له، فتكون المصالح أو المفاسد في مسائل الخلاف ثابتة بحسب ما في نفس الأمر عند المجتهد وفي ظنه، ولا فرق هنا بين المخطئة والمصوبة"
>[5] .
فكل مجتهد استحـكم نظره بحسـب ما ترجـح عنده من أدلة في ظنه، لا بحسب حقيقة الأمر وصفته الذاتية، "وإنما يكون التناقض واقعا إذا عد الراجح مرجوحا من ناظر واحد، بل هو من ناظرين، ظن كل واحد منهما العلة التي بني عليها الحكم موجودة في المحل، بحسب ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه، لا ما هو عليه في نفسه إذ لا يصح ذلك إلا في مسـائل الإجماع فههنا اتفق الفريقان"
>[6] .
أما الاختلاف الحاصل بينهما فلا ينهض تناقضا قادحا في اتفاقهما المبدئي، لذلك "يتفق ههنا من يقول باعتبار المصالح لزوما أو تفضلا، وكذلك من قال: إن المصالح والمفاسد من صفات الأعيان أو ليست من صفات الأعيان"
>[7] . لذلك فإن الخلاف ينحصر في مدى استقلال العقل بإدراك الحكم من عدمه، وما دمنا نجد الفرقتين ترى أن الحكم لله تعالى أصلا، وأنه لا حاكم
[ ص: 72 ] سواه، يستوي في ذلك ما كان مدركا للعقل أو غير مدرك، فإن الخلاف يكون إلى اللفظي أقرب منه إلى المعنوي، والله أعلم"
>[8] .
أما العلامة ابن خلدون وإن بدا في بعض مواقفه الكلامية يبتعد عن آراء المعتزلة وأقرب أحيانا من آراء الأشاعرة فإنه يظهر موفقا أحيانا أخرى بين موقفي المذهبين كما هو الحال في مسألة الحاجة إلى المعلم في معرفة الله تعالى، يقول، رحمه الله تعالى: "العلم بالله تعالى مستغن عن المعلم، خلافا للملاحدة، لنا العالم له مؤثر؛ لأنه ممكن، كان المعلم أولا. واعتمد جمهور المعتزلة وأصحابنا في إبطاله على أمرين:
الأول: لأنه يفتقر إلى معلم آخر ويتسلسل. ورد: يحتمل أن ينتهي إلى من عقله أكمل فيستقل كالنبي والإمام.
الثاني: أن العلم بصدقه يتوقف على العلم بالله لتوقفه على تصديقه إياه بالمعجزة فيدور, ورد: لانعزل العقل مطلقا، بل لا يستقل"
>[9] . ويعلق مقدم تحقيق "لباب المحصل" على هذا الاتجاه الخلدوني قائلا: "ونراه في هذه المسألة بالذات يميز بين أساطين المعتزلة الذين قالوا بمعرفة الله بالفعل فحسب، وبين جمهور المعتزلة الذين يتفقون في تصـوره مع الأشاعرة في القول بضرورة الوحي والنبوة"
>[10] .
[ ص: 73 ]
ومن أمثلة ذلك أيضا توفيقه بين رأي المعتزلة والأشاعرة في مسألة الإمامة بين الجواز العقلي والوجوب السمعي رابطا ذلك بالنظر المقصدي المتعلق بدفع الضرر، فقال: "..الإمامة قيل واجبة عقلا على الله، وقال الجاحظ والكعبي وأبو الحسين على الخلق، وقال جمهور أصحابنا والمعتزلة سمعا، وقال الأصم والخوارج لا تجب، لنا نصب الإمام يتضمن دفع الضرر؛ لأن الخلق ما لم يكن لهم رئيس قاهر يخافونه لا يحترزون عن المفاسد، ودفعه واجب إما عقلا عند قائليه، أو إجماعا عندنا"
>[11] .
وبشكل عام، يمكن القول: لم يغب البعد الكلامي في الدراسة الأصولية عند الشاطبي كما لم يتجرد البحث التاريخي منه عند ابن خلدون، فإنتاجات مفكري الإسلام كانت عادة متأثرة بالرؤية العقدية، بل إنها كانت أحد الدوافع الأساسية في الكتابة عندهم، لكن الذي ينبغي تسجيله هنا هو أن مرحلة القرن الثامن كانت بداية فعلية لتحول حقيقي في الاتجاهات الكلامية القائمة، فكان لحضور البعد المقصدي أثره القوي في ذلك التغير وهذا ما تبين مع الاتجاه الكلامي المقصدي لدى الشاطبي وابن خلدون.
[ ص: 74 ]