2- مظاهر عولمة نظم التربية العربية:
المعروف أن التربية أداة إنتاج الفرد والمجتمع، وإعادة إنتاجهما في أفضل صورة يريدها المجتمع لنفسه ولأبنائه أن يكونوا. فهي أداة أوجدها المجتمع للحفاظ على وجوده واستمرار حياته وتطويرها، وذلك بانتقاء أفضل ما فيه من عناصر ثقافية من أبعاد ماضي المجتمع وحاضره ومستقبله، وكذا انتقاء أفضل ما في الثقافات والحضارات الأخرى؛ لتجديد ثقافة المجتمع وتوسيع آفاق نموه.
وتحافظ التربية على ثقافة المجتمع وتجديدها من خلال تنمية أعضائه جسميا وعقليا وروحيا وخلقيا ونفسيا واجتماعيا، ومن خلال قيامها بوظائفها تجاه مجتمعها في النواحي الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية، وبذلك تستمر حياة المجتمع -أي مجتمع- وتتجدد أساليب حياته. بيد أن العامل المؤثر في سرعة تطوير الثقافة وازدهارها هو تفاعل عناصر ثقافة هذا المجتمع مع الثقافات الأخرى بطريقة متكافئة، أي تتبادل
[ ص: 154 ] معها عمليات التأثير والتأثر، أخذا وعطاء، القائم على الاعتراف المتبادل بالآخر، واحترام خصوصية كل ثقافة.
ذلك هو الوضع الطبيعي الذي ساد -في الغالب- طيلة العصور التاريخية للجنس البشري، بيد أن الدول الاستعمارية أدركت منذ وقت مبكر أن التعليم هو المدخل الحاسم لاختراق الثقافات التقليدية وتذويبها، وذلك من خلال تربية النشء الجديد في إطار ثقافة الدول الاستعمارية؛ حتى تتقبل الاستعمار، وتؤيده وتدافع عنه.
وهذا ما بينته حقائق تحديث التعليم في المنطقة العربية وغيرها من مناطق العالم الثالث، حيث عمدت سلطات الاحتلال إلى نشر أنماط التعليم القائم في بلدانها بأشكال مختلفة، وبأساليب متعددة. وبينت مسيرة تحديثه عن تكون علاقتين طرديتين وطيدتين بين انتشار التعليم الحديث، وانتشار التحضر أو الحداثة، فكلاهما سبب ونتيجة للآخر. فانتشار التعليم الحديث يؤدي إلى نشر الحداثة، أي إلى نشر الثقافة الاستهلاكية، والتطلع إلى حياة الحضر، والعكس يؤدي انتشار التحضر (أي بانتشار المدن الحضرية فقد توافرت شروط الاقتصاد الصناعي والخدمي الحديث) إلى نشر التعليم الحديث، وبانتشار التعليم الحديث؛ ينتشر التحضر. وبذلك يقوم التعليم الحديث بربط مناطق الحضر بالنظام الرأسمالي المعولم
>[1] .
[ ص: 155 ]
والدليل على ذلك أنه بمجرد انتشار التعليم الحديث في الأرياف يأخذ استهلاك منتجات المدينة في الانتشار في تلك الأرياف. وإذا لم يجد خريجو التعليم منتجات المدن في الريف؛ فإن غالبيتهم يشدون الرحال إلى المدن، سعيا وراء فارق الأجور بين الريف والحضر.
وما أن حل عصر العولمة إلا والحضارة الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تفرض هيمنتها المطلقة أو تكاد على الثقافات القومية للدول العربية والعالم الثالث، بصور وأساليب مختلفة، محسوسة وغير محسوسة، مما جعلها في حالة تلقي دائم لعناصر الثقافات الغربية، بل وفرضها عليها؛ لذلك تسعى الدول الرأسمالية الكبرى إلى وضع آليات لتعميم الفكر العولمي، ثقافة ومعرفة، في المجال التربوي بعد أن تسارعت خطى العولمة الاقتصادية، حيث صارت التربية بجميع مؤسساتها ومستوياتها الأساس الذي يراهن عليه العولميون لنشر قيم وثقافة الحضارة الغربية، وتحقيق الاستثمار الرابح والدائم في الوطن العربي والإسلامي؛ لتضمن بذلك تقديم منتج تعليمـي غربي، وتكوين إنسان عربي (لا منتمي) فاقد لخصائصه ومقوماته الحضارية الأصلية
>[2] .
ويعزى ذلك إلى أن التربية هي أداة تشكيل الوعي وإنماء شخصيات أبناء المجتمع، في أبعادها المختلفة؛ وعولمة النظام الرأسمالي الجديد تعتمد على الفكر والوعي لتقبلها والانخراط فيها، لذلك فنظم التربية في البلاد العربية هي الهدف الأول للعولمة؛ حتى يتم إرساء أعمدة العولمة في نفوس وعقول
[ ص: 156 ] النشء الجديد، لقدرتها على التأثير فيهم في هذا العمر الغض قبل أن تتكون لديهم الحصانة الداخلية.
أي أن العولمة تستهدف حصون الثقافات القومية وآلية إعادة إنتاجها، وذلك بتفكيكها من الداخل وإضعاف أدوارها من جهة، وإيجاد بدائل جديدة تشاطرها بعض أدوارها، والقيام بالبعض الآخر، ولا سيما خارج نظم التربية الرسمية من جهة ثانية، حتى تتصدرها وتفرغها من محتوى فعلها، خاصة وأن العولمة تملك قدرات وإمكانات هائلة تمكنها ليس فقط من محاصرة الشخص أينما يكون، وإنما أيضا تقديم الجديد والمستحدث بأساليب ووسائل شيقة وسريعة تلبي احتياجاته وتشبع رغباته المتنوعة.
ولما كانت التربية جهاز أو أداة الأيديولوجيا السائدة في المجتمعات التقليدية؛ كي تعيد إنتاج القوى المسيطرة على الثروة والسلطة والقوة، وكانت العولمة تسيرها أيديولوجية النظام الرأسمالي العالمي الجديد؛ فطبيعي أن تنتقل الأيديولوجيا التي توجه نظم التربية في دول العالم الثالث وتحكم عملياتها من نطاقها المحلي إلى النطاق العـالمي؛ كي تعيـد إنتاج النظام الرأسمالي المعولم.
وهنا لا غرو أن تسعى الدول الرأسمالية الكبرى ومعها المنظمات الدولية نحو فرض هيمنتها على نظم التربية العربية، ويتجلى ذلك في تدخلها السافر والمقنع في توجيه السياسات التربوية واستراتيجيات تطويرها في المسارات التي تخدم مصالحها، أو بمعنى آخر في اتجاه عولمتها، وكذا تغيير المناهج
[ ص: 157 ] التعليمية
>[3] ، وإلغاء مؤسسات تعليمية، واستبعاد تيارات وقوى سياسية واجتماعية معينة من موقع القرار التربوي؛ بحجج الاستفادة من التقدم العلمي والتقنية الحديثة، وبذريعة محاربة التطرف والإرهاب، وحقوق الإنسان والديمقراطية، وتحت مبرر المساعدات والمنح والقروض، إلى غير ذلك من الذرائع والمبررات التي تمكن من فرض مشروع الهيمنة على البلاد العربية لانتزاع مقومات الفعل التربوي العربي وصناعة المستقبل.
وبجانب هذا وذاك فكون التربية اللامدرسية تتخذ محتوى عملياتها الجديدة مما يحدث من متغيرات اقتصادية وثقافية وسياسية، هي نفسها نتاج للعولمة؛ فإن الأدوار الجديدة للتربية اللامدرسية أصبحت أقوى من أدوارها التقليدية في نشر ثقافة العولمة؛ نتيجة التطور في تقنية الإعلام والاتصالات المعلوماتية، فضلا عن أن مجتمع المعرفـة واقتصـاد المعرفة أخذا يلقيان بمطالب وأعباء فرضت على نظم التعليم إحداث تغيرات في أهداف العلم وتوسيع نطاق تطبيقاته
>[4] ، كون المعرفة أصبحت أساس تكوين اقتصاد المعرفة ومجتمع المعرفة.
[ ص: 158 ]
ومن الأمثلة على ذلك، أن الدين في البلاد العربية هو جوهر الحضارة أو الثقافة العربية، وأساس تماسك كل مكوناتها وأجزائها، والتربية هي وسيلة التفاعل بين الثقافة والدين، وأساس الحفاظ على الثقافة وحمايتها
>[5] ، ودوام استمرارهما، فإن استهداف العولمة للنظم التربوية هو استهداف لأخص خصوصيات الأمة العربية، وتقويض لأعمدة الدين ومرتكزات الثقافة؛ وذلك تحت مبررات التحديث، ونشر المعرفة، ومحاربة التطرف والإرهاب، وإظهار الدين الإسلامي على أنه محرك للصراع بين الأمم والشعوب، ومصدر للعنف والكراهية والإرهاب.
وما يؤكد سطوة العولمة على نظم التربية العربية مثلا أنه لما كانت اللغة العربية هي وعاء الثقافة العربية والحاضنة للخصوصية ومستودعها الطبيعي، وهي الرباط الذي يوصـل الماضـي بالحاضر، ويبعث الأمـل في المستقبل، واللغة العربية أخذت تتراجع وتفقد مواقعها كوسيلة للتواصل والتعليم والتعلم والبحث العلمي، فإن اللغة الإنجليزية، وسواها من لغات الدول الرأسمالية الكبرى هي التي يتزايد تأثيرها لمحو الثقافة العربية وطمس الخصوصيات الوطنية.
وعـلاوة على ذاك فـكون التربية أداة مجتمعـية تقوم بوظائفها وفقا لما تحتاجه نظم المجتمع وقطاعاته المختلفة، وأن هذه القطاعات قطعت شوطا
[ ص: 159 ] كبيرا في عولمتها؛ وأنها تعزز آلية عولمة التربية، حتى وإن وجدت قطاعات تقليدية وقوى محافظة تقف أمام العولمة، فإنها تضعف بالتدريج أمام شراسة عولمة القطاعات الحديثة، فضلا عن تجاذب نظم التربية العربية أفكار وضغوط قوى المحافظين والمجددين، وتيارات أخرى تجاري هذا أو تحابي ذاك، وقوى أخرى متفرجة، دون نهاية فاصلة بين هذه القوى؛ لأنها ما زالت تتعايش معا داخل نظم التربية، بوصفها انعكاسا لمظاهر الانقسام الحاصل في بنى المجتمعات العربية، في وقت تخضع فيه الممارسة والتطبيق التربوي لمؤثرات الأفكار التربوية الوافدة.
لقد شكلت الأزمة التي تعايشها نظم التربية العربية الأرضية المناسبة لعمل آليات عولمة التربية العربية، وكأن ما هو حاصل هو نتيجة منطقية لتصور رسم سلفا، حيث تاهت نظم التعليم هذه بين الاستقلال وعدم الاستقرار، وتباطأت عن هضم المستجدات التعليمية الحاصلة وإعادة تكييفها مع ما هو قائم، وتابعت التغـيرات العـلمية والتقنية والاقتصـادية، حتى أنها لم تعد قادرة على التمسك بنظمها التعليمية التقليدية المتشبثة بها بقوة، دون أن تستطيع الدفاع عنها في ظل هذه المتغيرات المتسارعة؛ تحت مبرر الحفاظ على إرث السلف لوحده. وكلما طال أمد المواجهة وعدم الحسم؛ تدهورت أوضاع النظم التربوية هذه، وتعقدت مشكلاتها، وقل فعلها، وتدنت منافعها، بل وصارت عبئا ثقيلا على نفسها، وعلى التنمية، وعلى المجتمع، وعلى المستقبل.
[ ص: 160 ]
وتأسيسا على ما سبق، فالهدف من عولمة التربية العربية هو فرض نموذج تربوي موحد يعولم الإدراك والوعي، ويوحد نمط التفكير البشري، حتى تسود العالم ثقافة عالمية مشتركة تنمط حياة البشر بقيم ومعتقدات مشتركة، وبعواطف وأحاسيس واحدة تحت نظام اقتصادي موحد، ونظام سياسي واحد يتولى حكم العالم
>[6] .