المطلب الثامن: أنواع الاجتهاد بتحقيق المناط:
تقدم أن الاجتهاد التحقيقي ضروري في كل الشريعة ذلك أن "الشارع غاية ما يمكنه بيان الأحكام بالأسماء العامة الكلية، فمعرفة دخول ما هو أخص منها تحتها من الأنواع والأعيان"
>[1] لا يكون إلا باجتهاد تحقيق المناط، "فلا يمكن إثبات حكم نوع أو عين إلا به"
>[2] .
[ ص: 97 ]
وانطلاقا من كلام الإمام ابن تيمية عن تحقيق المناط، يمكن حصر أنواع تحقيق المناط في نوعين عند الإمام ابن تيمية:
تحقيق المناط في نطاق النوع، وتحقيق المناط في نطاق العين.
-تحقيق المناط في نطاق النوع:
هذا النوع ضرب من العموم، لكونه يصلح لأكثر من فرد، وهذا هو الأصل في تحقيق المناط، ذلك أن الحكم التكليفي متسم بالتجريد والعموم، وعمومه يكون مسوقا إلى الوقائع في أجناسها، فهو غير محدد بزمان أو مكان أو شخص معين بل يشمل عموم المحكوم فيه والمحكوم عليه على سبيل الاستغراق، وأما تجريده فلوقوعه في الذهن متعلقا من مآخذه الشرعية دون تعلق بالوقائع الجزئية.
>[3]
ولم يتعرض الإمام ابن تيمية لتعريفه، وإنما جاء كلامه عاما.
ومن أمثلته: إذا وقع في الماء دم أو ميتة أو لحم خنـزير من الماء والمائعات ولم يتغير لونه ولا طعمه، بل استهلت النجاسات فيه واستحالت، أو رفعت منه واستحال فيه ما خالطه من أجزائها، فينظر في ذلك: هل يدخل في مسمى الماء المذكور في القرآن والسنة، أو في مسمى الميتة والدم ولحم الخنـزير
>[4] .
[ ص: 98 ]
المثال الثاني: دخول الأشربة المسكرة من غير العنب والنخل في مسمى "الخمر"، ودخول "الشطرنج" و"النرد" ونحوهما في مسمى "الميسر"، ودخول السبق بغير محلل في سباق الخيل، ورمي النشاب في ذلك، ودخول الرمل ونحوه في الصعيد المذكور في قوله تعالى:
( فتيمموا صعيدا طيبا ) (النساء:43) ، ودخول من خرج منه مني فاسد في قوله تعالى:
( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) (المائدة: 6) ودخول الساعد في قوله:
( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) (المائدة: 6)، ودخول البياض الذي بين العذار والأذن في قوله:
( فامسحوا بوجوهكم ) ، ودخول الماء المتغير بالطاهرات أو ماوقعت به نجاسة ولم تغيره في قوله
( فلم تجدوا ماء ) ، ودخول سارق الأموال الرطبة في قوله تعالى:
( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ) ( المائدة:38) ، ودخول النباش في ذلك، ودخول الحلفة بما يلزم الله في مسمى الأيمان، ودخول بنات البنات والجدات في قوله:
( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت ) (النساء:23)
>[5] .
[ ص: 99 ] - تحقيق المناط في نطاق العين:
إن الأنواع التي وقع التحقيق فيها يندرج تحتها من آحاد الأفراد من الأفعال ما لا يحصى عددا، ولئن كانت هذه الأفعـال مشمولة بنوع واحد إلا أنها في ذاتها متغايرة بالتشخص مما يجعل من كل فعل منها فعلا مستأنفا لئن شابه أفعـالا أخرى فإنه يتخلف عنها كلها، وهـذا الاختلاف بين أفراد الأفعال يقتضي من العقل اجتهادا يشبه اجتهاده في تحقيق الأنواع ولكنه أدق
>[6] .
ويعتبر هذا النوع من الاجتهاد التحقيقي الأكثر ورودا في كلام الإمام ابن تيمية، يقول: "فأما الجزئيات الخاصة كالجزئي الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، مثل ميراث هذا الميت، وعدل هذا الشاهد، ونفقة هذه الزوجة، ووقوع الطلاق بهذا الزوج، وإقامة الحد على هـذا المفسد، فهذا مما لا يمكن لا نبيا ولا إماما ولا أحدا من الخلق أن ينص على كل فرد فرد منه، لأن أفعال بني آدم وأعيانهم يعجز عن معرفة أعيانها الجزئية علم واحد من البشر وعبارته"
>[7] ، فالمحرمات المعينة لا سبيل إلى النص عليها، لا لرسول ولا لإمام بل لا بد فيها من الاجتهاد
>[8] .
[ ص: 100 ]
ويعرفه بقوله: "وهو أن يكون الشارع قد علق الحكم بوصف، فنعلم ثبوته في حق المعين"
>[9] ، ومن أمثلته الاجتهاد في تعيين القبلة عند الاشتباه، والاجتهاد في عدل الشخص المعين، والنفقة بالمعروف للمرأة المعينة، والمثل لنوع الصيد أو للصيد المعين، والمثل الواجب في إتلاف المال المعين، وصلة الرحم الواجبة، ودخول أنواع من المسكرات في اسم الخمر، وأنواع من المعاملات في اسم الربا والميسر
>[10] ، وكأمره باستشهاد ذوي عدل، كنا قد علمنا أن هذا ذو عدل، كنا قد علمنا أن هذا المعين موصوف بالعدل المذكور في القرآن
>[11] .
ومن الأمثلة كذلك الشطرنج فقد حرمه الإمام ابن تيمية لما رأى أن مناط تحريم النرد متحقق فيه وزيادة، قال: "الشطرنج شر من النرد؛ لأن مفسدة النرد فيها وزيادة مثل صد القلب عن ذكر الله، وعن الصلاة، وغير ذلك... واشتغال القلب بالتفكير في الشطرنج أكثر"
>[12] .
- تحقيق المناط الخاص في نطاق العين:
هذا النـوع من تحقيق المناط يحققه المكلف نفسه، باعتبار أن المكلف هو أكثر الناس عـلما بخـصوصيـاته، فهو الذي يحقق مناط الأفضلية،
[ ص: 101 ] ذلك أن "الأفضـل يتنـوع بتنـوع أحوال الناس،... فمن الناس من تكون القـراءة أنفـع له من الصـلاة، ومنهـم من يكون الذكر أنفـع له من القراءة، ومنهم من يكون اجتهاده لكمال ضرورته أفضل له من ذكر هو فيه غافل"
>[13] .