المبحث الثالث
فقه الموازنة والترجيح
قال الإمام ابن تيمية: "فأما مراتب المعروف والمنكر ومراتب الدليل، بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليه، وتنكر أنكر المنكرين، وترجح أقوى الدليلين: فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين" (اقتضاء الصراط المستقيم، 298).
يعتبر فقه الموازنة من أدق أعمال الفقيه وأصعبها، فهو يساعده، عند تعارض المصالح مع بعضها أو المفاسد مع بعضها أو المصالح مع المفاسد، على وضع كل شيء في مرتبته بالعدل، من الأحكام والقيم والأعمال، ثم يقدم الأولى فالأولى بناء على معايير شرعية صحيحة، يهدي إليها نور الوحي، ونور العقل ( نور على نور)، فلا يقدم غير المهم على الأهم، ولا المرجوح على الراجح، ولا المفضول على الفاضل أو الأفضل.
بل يقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخـير، ولا يكبر الصغير، ولا يهون الخطـير، بل يوضـع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم، بلا طغيان ولا إخسار، كما قال تعالى:
( والسماء رفعها ووضع الميزان *
ألا تطغوا في الميزان *
وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) (الرحمن: 7-9)
>[1] .
[ ص: 135 ]
ويعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية من أبرز من اهتم بهذا النوع من الفقه، ففعله في اجتهاداته، سواء منها الاستنباطية أو التنـزيلية، ويرجع ذلك لسببين:
الأول: سعة علمه بالنصوص الشرعية، ودقة نظره في معانيها، على منهج سلف الأمة الصالح.
الثاني: كثرة العوارض في زمنه من ظهور أهل البدع وسطوتهم وفتنتهم لأهل السنة.
>[2]
ويمكن تقسيم الموازنة إلى قسمين:
1- موازنة على سبيل التغليب.
2- موازنة على سبيل التقريب.
ولكل منهما ألفاظه الدالة عليه، قد ثبتت بطريق الاستـقراء، فالمستقرئ مثلا للموازنة عند ابن تيمية يلحظ أنه يستعمل ألفاظا متنوعة ليقرر بها الحكم الشرعي نحو:
الصحيح أو الأصح، الصواب أو الأصوب، القوي أو الأقوى، والتحقيق أو حقيقة الأمر.
وكذا الأفضل، الأظهر، الأعدل، الأبلغ، الأوجه، الأرجح، الأشبه، الأولى، الأكمل، الأحسن، أعظم من الأوكد، الذي ينبغي، خيرا من ...، شرا من ...
>[3] [ ص: 136 ]